دخل لبنان مرحلة جديدة من المواجهة السياسية العاكسة لما يحصل في المنطقة. وإذا كان حكام السعودية قد قدموا خلال الأعوام القليلة الماضية نماذج عدة عن الجنون الذي لا يقف عند مصلحة شعب أو دولة، فإن استقالة غامضة لرئيس الحكومة سعد الحريري جاءت في سياق المستوى الجديد من العبث السعودي بالمنطقة.
الخطوة بدت سريعاً كأنها جزء من عملية حصر إرث مملكة القهر التي قرر وليّ العهد فيها، محمد بن سلمان، السيطرة على كامل مفاصل الدولة في السعودية ومقدراتها وأدواتها في الخارج، ما جعل السؤال الأساسي حول أسباب استقالة الحريري يتراجع أمام سؤال حول مصير الحريري نفسه. ورغم أن ما حكي عن أن السلطات السعودية وضعت رئيس الحكومة في إقامة جبرية بقي في إطار الشائعات، إلا أن المسار السياسي يُثبت أن الحريري بات رهينة ابن سلمان. رهينة، بالمعنى السياسي للكلمة.
وإلى أن يظهر الحريري، خلال وقت قريب، في بيروت أو في أي عاصمة أخرى غير الرياض، فإن القلق حول مصيره لن يتبدد، ليس عند أركان الدولة فقط، بل حتى عند المقربين منه وعند أنصاره.
صحيح أن القوى الأكثر نفوذاً ليست في حالة توتر، لكن الوقائع على الأرض تبقى رهن مسارات الأمور الجارية خارجياً، لأن الخطوة السعودية بدت كأنها رد في لبنان على خسائرها في سوريا والعراق واليمن. وما يجري الآن في مملكة القهر يفتح الباب أمام أسئلة حول مستقبل الوضع في الجزيرة العربية نفسها، حيث الجميع غارق في وحل اليمن، وحيث الأزمة مع قطر تربك دول الحصار كما تربك الإمارة المحاصرة، وحيث يستعجل الأميركيون إنجازات ميدانية تتيح استعادة زمام المبادرة بوجه خصوم صاروا أكثر قرباً من بعضهم البعض، من روسيا إلى إيران، إلى العراق وسوريا وقسم كبير من لبنان... وقسم غير قليل من فلسطين.

تجرى اتصالات جدية لكي ينتقل الحريري إلى باريس، ما ينزع الكثير من أسباب التوتر


إعادة تجميع عناصر المشهد تقود إلى حملة بدأتها السعودية قبل مدة على حزب الله في لبنان وعلى نفوذ إيران فيه، توّجتها بارتفاع في حدة المطالب السعودية بعزل حزب الله حكومياً ونيابياً وسياسياً، وإطلاق اتهامات بحق الحكومة «الساكتة عنه». وفجأة، رنّ هاتف الرئيس الحريري يوم 30 تشرين الأول 2017، يبلغه دعوة عاجلة للقاء ولي العهد السعودي، ليعود بعد يومين إلى بيروت، مشيعاً الأجواء الإيجابية عند معظم الحلفاء والسياسيين، وأنه ينتظر اتصالاً لتحديد موعد له مع الملك السعودي سلمان. حصل ذلك بعد يومين، إذ توافقت المصادر على أن الحريري تلقى اتصالاً يوم الجمعة الماضي يفيده بضرورة القدوم فوراً الى الرياض، ومن دون مرافقين، وأن موعده تحدد مع الملك. لكن، خلال ساعات، تبين أن الملك لم يستقبل الحريري، بل خرج الأخير معلناً استقالته من الحكومة، ليقفل بعدها خطوطه الهاتفية، وينشغل الجميع بحملة شائعات كبيرة حول ما يحصل.
وخلال ساعات قليلة تلت بيانه، انتقل الجميع للانشغال بالحدث السعودي الداخلي، حيث بدأت اعتقالات لعدد غير قليل من الأمراء والمسؤولين السعوديين، ليتبيّن أن جميع هؤلاء كانوا قد أبلغوا قبل أسبوع بضرورة وجودهم داخل الرياض، لأن الملك وولي عهده يريدان الاجتماع بهم. اكتشف الجميع أنها مجرد مواعيد وهمية، وهي أقرب الى كمين مكّن السلطات من ضمان وجود هؤلاء داخل المملكة، إذ اتخذت على الفور إجراءات بمنع إقلاع الطائرات الخاصة في كل المطارات، وليتم تعميم لائحة بعشرات الأسماء عند المعابر الحدودية ممن صدر بحقهم قرار منع سفر أو «ترقب وصول» كما هي حال بعض رجال الأعمال اللبنانيين.
وفي وقت لاحق، تبين أنه تم نقل جميع المطلوبين الى المجمع الفندقي الراقي «الريتز كارلتون» قبل أن تطوّقه قوة خاصة من الحرس الأميري التابع لولي العهد. ومُنِحت إجازات لعدد كبير من موظفي الفندق، ليتولى رجال الأمن المهمات اللوجستية، وتعلن أدارة الفندق أنه محجوز حتى نهاية الشهر.
في ما خص الحريري، تسارعت التطورات: إعلان مفاجئ من قناة «العربية» عن رسالة من الحريري، الذي قرأ بيان استقالة ملتبساً. تلا ذلك انقطاع «التواصل الطبيعي» بينه وبين الآخرين. كل ذلك جعل السؤال مشروعاً عما إذا كان الحريري مشمولاً بالإجراءات، وخصوصاً أن مسؤولاً سعودياً بارزاً أبلغ جهة لبنانية أن الحريري موضع «شبهة» في ملف هبة المليار دولار التي خصصها الملك الراحل عبدالله لمساعدة القوى الأمنية اللبنانية، وأن اسمه ورد في التحقيقات الجارية مع خالد التويجري، رئيس الديوان السابق الذي تولى الإشراف على إنفاق الهبة بطلب من الملك.
ومع ذلك، سارع مقربون من الحريري ومن أعضاء في حرسه الخاص الى الاتصال به، لكن الاتصالات بقيت مقتضبة وباردة. وقال أحد مساعدي الحريري إنه لم يرد على مكالمته، بل بعث له رسالة من خلال تطبيق «الواتس آب» قائلاً إنه بخير، ومن ثم نقل المساعد عنه أن كلامه اقتصر على العموميات: «إن شاء الله خير». «نلتقي قريباً». «المهم الاستقرار». وعندما اقترح بعضهم عليه أن يزوروه في السعودية، أجابهم بالقول: «إذا احتجت لأحدكم، فسأطلب حضوره».
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تعداه الى توتر أكبر مع إعلان الحريري أنه يملك معلومات عن محاولة لاغتياله. ومع أن الجميع فهم العبارة كتعبير عن قرار بعدم عودته سريعاً الى لبنان، فإن الخبر أثار حفيظة جميع القوى الأمنية في لبنان، التي سارعت الى نفي أن تكون خلف المعلومات، نافية أيضاً وجود مثل هذه المعطيات عند أي منها، فقرر السعوديون إحالة المعلومات الى جهات غربية أو الى حرسه الخاص.
وبرغم الخضة التي شهدها لبنان عموماً، وانشغال المسؤولين اللبنانيين باتصالات لمعرفة خلفية الخطوة وماهية الخطوات اللاحقة، ركز الفريق اللصيق بالرئيس الحريري على معالجة حالة الذهول والحيرة عند جمهوره. وتولى قياديون في «المستقبل» إبلاغ الكوادر أن الحريري عائد الى بيروت في وقت قريب. وذهب النائب عقاب صقر ليل أمس الى إبلاغ إعلاميين أنه تم تحديد موعد عودته خلال 48 ساعة. لكن أي بيان حول هذا الأمر لم يصدر عن أي جهة، بينما تداول الجميع صورة نشرت على صفحة الحريري على موقع «تويتر»، تجمع الحريري مع السفير السعودي المعين في بيروت وليد اليعقوبي. لكن مصدراً قريباً من الحريري قال إن الحريري يربط أي مغادرة له للسعودية بظروف أمنية وسياسية، وإنه قد يسافر الى اليونان للمشاركة في قمة أوروبية – عربية، على أن يعود الى السعودية، وإن مسألة عودته الى بيروت لم تبتّ في كل اتصالاته المقنّنة مع بيروت، رغم أن المصدر نفسه يدعو الى الأخذ بالحسبان أن الحريري قد لا يطلع أحداً في بيروت على برامج تحركاته في العالم. وتجرى اتصالات جدية، تتولاها جهات رسمية فرنسية، لكي ينتقل الحريري إلى باريس، ما يؤدي إلى نزع الكثير من أسباب التوتر الناتجة من الغموض الذي يلف حالة الحريري.
يشار هنا الى أن عنصر المفاجأة يعود الى كون الحريري، إثر زيارته الأولى للرياض الخميس الماضي، أبلغ مساعديه أنه توصل مع القيادة السعودية الى دعم مشروع باريس ــ 4 وأن هناك برامج دعم كبيرة سوف يحصل عليها لبنان لدعم قطاعات عدة؛ بينها الجيش.
أما كتلة «المستقبل» النيابية التي عقدت اجتماعين خلال 24 ساعة، فقد أصدرت موقفاً لم يعالج الغموض بشأن وضع الحريري، مكتفية بتبنّي ما جاء في بيان استقالة الحريري، مع دعوة «جميع الفرقاء اللبنانيين إلى التنبه والتبصر في المخاطر، التي يتعرض لها لبنان نتيجة الاختلال في التوازن الداخلي والمخاطر الخارجية الناتجة من استمرار التورط الإيراني وحزب الله وتصاعده في الصراعات الدائرة في المنطقة».
ومع كل ما سبق، بقي موضوع الاستقالة بشكلها ومضمونها محل متابعة بطرق مختلفة. في بعبدا، قرر الرئيس ميشال عون التريث في الخطوات الدستورية، وبرر الأمر بأنه يريد الاستماع الى الحريري مباشرة ليفهم منه سبب استقالته، وليفهم أكثر إذا كان قراره يتعلق بشخصه أو أن تياره السياسي لا يريد البقاء داخل الحكومة أو داخل أي حكومة جديدة. وعلم أن الرئيس عون اتفق مع الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط وقيادة حزب الله على مبدأ التريث. وقد جاء موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ليل أمس، ليصب في خدمة التهدئة وإبقاء الأبواب مفتوحة أمام المعالجات، مع حرص على الفصل بين مضمون ما أعلنه الحريري في بيانه، وبين تحميل السعودية مسؤولية الموقف التصعيدي، تحت سقف عدم الانجرار الى المواجهة. وجرت اتصالات مباشرة بين مسؤولين في حزب الله ومسؤولين في تيار المستقبل، كما بين التيار الوطني الحر ومساعدي الحريري، ركزت على ضرورة عدم حصول أي تصعيد سياسي أو إعلامي أو في الشارع. وكان حزب الله واضحاً في ردوده على المستفسرين بأنه لا يتصرف على أن كلام الحريري يعبّر عن وجهة نظره، وأن المشكلة هي مع السعودية ولن تكون مع غيرها، إلا إذا قررت جهات لبنانية تبني خطاب الرياض والانخراط في موجة الجنون السعودية.
وبحسب المعلومات، فإن الرئيس عون يركز على ضرورة عودة الحريري الى بيروت كأساس لكل بحث لاحق، وأنه يأخذ الأمر بجدية لناحية أن رئيس حكومة لبنان قد يكون في وضع صعب. وطلب عون في اتصالات خارجية عاجلة، شملت مصر وفرنسا والأردن المساعدة لمعالجة هذه النقطة. لكن زوار عون نقلوا عنه أنه إذا جرى تثبيت استقالة الحريري، فإن البلاد لا يمكن أن تبقى من دون حكومة، وأن الإجراءات السياسية هدفها التمهيد للإجراءات الدستورية الواجب اتخاذها من أجل الشروع في استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة. وأنه إذا قرر تيار «المستقبل» عدم السير في هذه الخطوة، فإن المشكلة ستكون حول من يمكنه قبول هذه المهمة، علماً بأن الرئيس بري والنائب وليد جنبلاط أكدا عدم استعدادهما للسير في مواجهة سياسية مع التيار السياسي والشعبي الذي يمثله الحريري.
وبينما ظل الإرباك مسيطراً على مواقف «المستقبل» وبقايا قوى 14 آذار، كانت لافتةً مسارعة الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي الى تحرك هدفه عدم حصر مرجعية هذا الملف بيد تيار «المستقبل». وهو طالب دار الفتوى بتحمل المسؤولية من زاوية أن منصب رئيس الحكومة يخص الطائفة السنية، وأن يصار الى دعوة المجلس الشرعي إلى الاجتماع، وهو الهيئة التي يحضر فيها جميع ممثلي القوى السنية النافذة في البلاد، وأن يكون الاجتماع مناسبة لإعلان موقف لا يمكنُ بقيةَ القوى السياسية تجاوزُه.