هناك بُعد عنصري واضح تستبطنه عبارة «بول البعير»، إذ تُلصق خبط عشواء بكل ما هو «سعودي» لدى انتقاد أهوال «مملكة القهر» التي تشهد، منذ فترة، مسرحيّة تراجيكوميديّة ـــ بلغت ذروتها في اليومين الماضيين ـــ عنوانها «مجنون الحكم». وهذا البعد العنصري مكروه، ومرفوض بقوّة. فالتعميم الاختزالي لتقاليد رعويّة، تعود إلى مكان وزمان محددين، على شعب كامل له حضارته وعزّته وتقاليده… هذا التعميم جنحة أخلاقيّة، وهفوة سياسيّة، وإساءة لأهل وإخوة لا شأن لهم في السياسة الرعناء لحكامهم، وقد لا يتعايشون معها إلا مرغمين، ومغلوبين على أمرهم.
ومع ذلك، فإن العبارة باتت «مصطلحاً متداولاً»، وبهذه الصفة فقط سنستعيرها هنا، من آخر مطلقيها، الزميل حبيب فيّاض، مجرّدة من إحالاتها العنصريّة، لتوصيف وضع الاعلام اللبناني الذي يعوم للأسف في «بول البعير»! يعوم ولا يغرق، فتلك هي «الشطارة اللبنانيّة»: لا يهمّ في ماذا تعوم، المهم أن تعوم! لا نعمّم طبعاً، إنما نتحدّث عن جزء أساسي من الاعلام المرئي، الواسع الانتشار والقدرة على التأثير، علماً بأن الحقيقة المُرّة تنسحب على سائر وسائل الاعلام والتواصل. نتحدث عن محطّات، وصحافيّين، ومحاورين، ومذيعين، ومحللين، ومديري أخبار، و… أصحاب محطّات، يحاصرهم مستنقع من «بول البعير».
لا يسرّنا أن نقسو على بعض الزملاء، ولا أن نصل إلى مثل هذه الاستنتاجات… فالمهنة كلّها هي التي تلطّخت سمعتها، وأخذت تفقد صدقيّتها يوماً بعد آخر، وتتحوّل إلى أداة تضليل وتحريض، وبؤرة انحطاط، بعدما ضربت عرض الحائط بكل القواعد والأصول. إعلامي «نجم»، يستقبل بضحكته البلهاء «خاطف» رئيس حكومته، والوصي عليه، والناطق القسري باسمه، بعد ساعات من اختطافه، ولم يكن مقرّبوه يملكون أي خبر عنه بعد. يتحدّث «الضيف» بفوقيّة وثقة، كما يتوجّه «السيّد» إلى «عبيده»! في غياب من يناقض ويساجل ويحاسب، أشرق علينا الوزير السعودي ثامر السبهان عبر محطتين، مساء السبت، ليملي على الشعب اللبناني الرواية الرسميّة لـ«مصادرة الحريري»، في حين أننا لم نسمع أيّ تشكيك أو رواية أخرى. لم يتساءل أحد: لماذا لا نسمع الرئيس الحريري الذي استقال من خارج لبنان، عبر فيديو مسجّل في «مكان ما»، بتعبير «المنار، بثته محطّة سعوديّة؟ الإعلام «السيادي» «المستقل» أفسح المجال لمغتصب السيادة الوطنيّة اللبنانيّة، وزير الدولة السعودي «الزعطوط»، كي يعطيَنا الدروس والنصائح، بكل وقاحة وفجور، وليس من يوقفه عند حدّه. مذيع آخر، أهان ضيفه لأنّه تفوّه بجملة غير لائقة برأيه (بول البعير نفسه). لكن الأجواء كانت قد هدأت في الاستوديو، وتم تجاوز الحادثة حين اعترت الإعلامي نوبة غضب مفتعلة، وبناءً على تعليمات مباشرة واضحة جاءت خلال الفاصل الاعلامي، ارتجل اسكتشاً غبيّاً غير مقنع (مثل استقالة الحريري) ليطرد حبيب فيّاض من «تلفزيون المرّ» لأنّه تعرّض للسبهان «ما غيرو»، أيقونة الديمقراطيّة اللبنانيّة. «كم قبضت» على هذه العنتريات؟ سأل الضيف قبل أن يغادر. بأيّ حق فعل الزميل «الموضوعي» ذلك؟ ما الشرعة المهنيّة التي استند إليها؟ وأيّ رأي عام، أو مجلس أعلى للإعلام، أو جسم نقابي، سيحاسبه في هذا الزمن السبهاني النغل؟
استُدرج رئيس الحكومة اللبنانيّة منفرداً إلى «إقامته الجبريّة» المفترضة، حتّى إثبات العكس، ليعلن استقالته الغريبة التوقيت واللهجة والنبرة، بطريقة مشبوهة، غير مقنعة، وتحوم حولها الشكوك. لكنّ جزءاً كبيراً من «الإعلاميين» لم يلاحظ، أو لا يرغب في ذلك. لم يطرح التساؤلات. لم يشكك. لم يحاول أن يفهم. بل تبنّى أوتوماتيكيّاً الرواية الرسميّة المهزوزة، الصادرة عن سلطة ذاك البلد المعروف بـ«شفافيته» و«ديمقراطيته» و«احترام حقوق الانسان»، وبـ«تقاليده الاعلاميّة العريقة». هكذا، فإن سيناريو «الاستقالة»، والخطاب التحريضي الذي يستحيل أن يصدر بين ليلة وضحايا عن سعد الحريري، والذريعة الأساسيّة التي قام عليها مخطط «الاختطاف» (إحباط «محاولة لاغتيال الحريري» في الساعات الأخيرة)… باتت حقائق ثابتة، لا تقبل التشكيك. ما همّ أن تكون «المديريّة العامة للأمن الداخلي» في لبنان، قد أكّدت أنها «لا تملك أي معلومات حول الموضوع»؟ لقد أفلت المحللون والاعلاميون من عقالهم، تخلّوا عن كل الضوابط، وتسابقوا للدعوة إلى «الجهاد»: أي إلى خراب لبنان، وزجّه في دوامة من الجنون والانهيارات.
أوّل ما نتعلّمه في هذه المهنة اللعينة، هو التدقيق في المعلومات، ومطابقة المصادر، والتشكيك في المظاهر، وإخضاع الخبر أو الحدث لأسئلة نقديّة، احتراماً للحقيقة، للديمقراطيّة، للمهنة، ولعقول الناس. صحيح أن جمهوريّة الموز، ومملكة الطوائف، تفرز رعايا لا يملكون عقولاً، بل تحرّكهم الأهواء والعصبيّات والغرائز، لكن ماذا عن النخبة؟ من السائد والشائع، والمثبت في حالات عدّة، أن بعض الاعلام اللبناني مرتزق يعتاش على المكرمات والمال السياسي، وأن بعض الإعلاميين، نجوماً وصاعدين، باع ذمّته أيضاً لرعاة الانحطاط والخيانة. المهزلة المضحكة المبكية التي طبعت أداء بعض المحطات اللبنانيّة، وبعض المحللين والإعلاميين، في طريقة التعاطي مع «مأساة الرئيس الحريري»، تأتي لتؤكّد هذا الأمر الواقع، وترينا مخاطره وعيوبه الفظيعة. في المستقبل، حين يأتي من يتحدّث عن أزمة التلفزيونات، وأزمة الصحافة في لبنان، سنذكّره بأن غياب الصدقيّة والاستقلاليّة هو السرطان الذي ينخرها، وأن اللبنانيين لن يخسروا شيئاً إذا انهار هذا «الإعلام» الذي فقد روحه، وفقد مبررات وجوده. إذا أردتم وطناً وإعلاماً وسيادة وحريّة وديمقراطيّة… أبدأوا بغسل ضمائركم من «بول البعير»!