«منير أبو دبس في ظلّ المسرح» هو عنوان الوثائقي الذي أخرجته ريتا باسيل، بعد عناء مواكبة منير أبو دبس (1932 ـــ 2016) على مدى عامين متواصلين، وما يحمله هذا العناء من لذّة ومتعة في آن. هو أولاً أبو المسرح اللبناني، ذاك الشاعر اللبناني/ الفرنسي، السينوغرافي والدراماتورجي، ولد في أنطلياس بعيداً عن اهتمام أبٍ سرقه السفر، ثم أعاده بعد فوات الأوان. تلقّف أبو دبس المسرح عن طريق الأعياد والطقوس الدينية.
عام 1959، سافر رينيه أوري الى فرنسا حيث كان في صدد تأسيس قناة تلفزيونية لبنانية في تلّة الخياط بالتعاون مع مكتب الإذاعة والتلفزيون الفرنسي. يومها، صدم أوري بوجود موظف لبناني يعمل في قسم الدراما هناك، إذ كان منير أبو دبس يعمل كمساعد مخرج وممثل مسرحي، وكان التلفزيون وقتها يقدم أعمالاً مسرحية مرتين في الأسبوع. عاد ابو دبس الى بلده الأم حيث التقى سلوى سعيد، وكانت آنذاك مسؤولة التراث الشعبي، فعرضت عليه مكاناً في راس بيروت وميزانية متواضعة، بالاضافة الى مكتب صغير لتنظيم أمور العمل عندها. وافق منير، فأسس معهد التمثيل الحديث الأول في لبنان قرابة عام 1960. انطلقت بعدها «مهرجانات بعلبك» وقادها أبو دبس فنياً، وكان مسؤولاً عن السينوغرافيا وتحديداً عن التراث الشعبي. عمل مع فيروز والرحابنة، ومع الموسيقار وليد غلمية وكبار الفنانين كصباح ووديع الصافي.
استطاعت ريتا باسيل بأسلوبها العفوي أن تستنطق منير الذي كان بدوره مندفعاً وعطوفاً في كلامه. خلف تلك العينين البراقتين، يمكن للمشاهد أن يستشفّ عقوداً من التعب والشقاء ووضع حجر الأساس للأبي الفنون في لبنان. وجدت باسيل طريقة ابو دبس في تدريب الممثلين. هو اعتمد أسلوباً خاصاً وملفتاً، يقضي بإيصال الممثل الى حالة غياب وانفصال عن الذات. عندها، يتسنى له أن يعلم الشخصية التي ينبغي له تجسيدها على المسرح. يعتبر ابو دبس أنّ على الفرد التخلي عن الدلالات الشخصية التي يتحلى بها حتى من دون استخدام الأقنعة ليصل الى حالة شاعرية مطلقة. بعد أن يمر الممثل بهذه الحالة، سيغدو- حسب أبو دبس- كطفل ٍعلى المسرح من حيث السليخة والبراءة. يخضع الممثلون لحالة دهشة تخوّلهم لاحقاً للبحث عما تعنيه هذه الدهشة. فهذا الفصل والتباعد عن الحضور النفسي الملحوظ للممثل سيشرّع الأبواب نحو الفن والإبداع الحقيقيين.

تأثّر بمنهج مصمم الرقص الأميركي ألوين نيكولاس


تأثر أبو دبس بمنهج مصمم الرقص الاميركي ألوين نيكولاس، خاصة في بعلبك. فقد كان يقوم بأعمال تحمل على بساطتها عمقاً روحيّاً كبيراً، إذ درّب الراقصين على أداء حركات صغيرة وقصيرة أحياناً، لكنها تخفي في طياتها دلالات وأبعاد مبطّنة الى حد ما. بحسب نيكولاس، فتبسيط الأفعال سيجعلها أسهل بالنسبة إلى الممثلين ويعطيها بنية مصقولة المعالم، فقد يتحرك الممثل باتجاه معين وإيقاع مدروس ليشكّل بذلك لوحة راقصة.
يعتمد هذا الاسلوب على استيعاب الممثل لوعي الحركة، وقدرته على الإمساك بها بإتقان. بمجرد إدراك كيفية تقديم الحركة بشكل صحيح على المسرح، سيكون الممثل قادراً على صنع رقصة انطلاقاً من فعل عادي وبسيط.
لم يكتف أبو دبس بهذا القدر، بل غاص في هذا النهج، ليصل إلى درجة الاستغناء عن حركة الأطراف كما في مسرح «النو» الياباني. آمن بأنّ الجمود يحمل قيمة توازي تلك التي تحملها الحركة. فالجمود كافٍ ليعطي رموزاً مركبة أيضاً.
حاولت ريتا باسيل الإضاءة على منارة من منارات الوطن التي ما عادت الأجيال تتطلع لها أو تعرف عنها. لذا سعت بكل ما أمكنها ــ رغم نقص الأرشيف وضعف الإمكانيات المادية ــ إلى نقل مسيرة فنان لبناني، لتسلط الضوء على فنانين آخرين. فهو الذي جذب ميراي معلوف بهدوئه وصمته اللذين يميزان مسرحه ويكلّلان خشبته حسب قولها. أما الممثل أنطوان كرباج، فكان له الفخر بأن يكون أحد تلامذة ذاك المعلّم الذي يتقن فهم جسمه والتحكم بكل عضلة على حدة.
تتمنّى ريتا من هذا العمل أن تسهم ولو بجزء يسير في حفظ ذاكرتنا، وملء الهوة التي تخل بواقعنا الثقافي والفني، ل سيما على صعيد المسرح. «نام منير ابو دبس مرتاح البال في مرقده، لكنّ منهجه لا بدّ أن يبقى متّقداً لتنهل منه الأجيال القادمة من أجل نفض الغبار عن المسرح الذي آل نجمه للأفول».

تحية إلى منير أبو دبس: 7 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ س:19:00 يليها عرض فيلم «منير ابو دبس في ظلّ المسرح» (52 د) ــ جناح المعهد الفرنسي