■ عند قراءة رواياتك ، يخيل إلينا أن أشياء كثيرة لم تروَ بعد في هذه البقعة من الأرض. هل أنت تعطي الصوت لهذا التاريخ المكتوم الصوت، أم أنك فقط تستخدم التاريخ كإطار لسيناريوهات محض متخيلة؟- بداية، أنا لا أكتب «روايات تاريخية». ما أرويه هو مصائر فردية أو عائلية في حقبات معينة من التاريخ. بهذه الطريقة، أحاول إعادة تأويل أو تفسير حوادث تاريخية. إحدى وظائف الرواية تقوم على إعادة قراءة التاريخ، أن نحمّلها نظرة تختلف عن القراءة التاريخية الرسمية أو المتخيل الجمعي، وخصوصاً جعله أكثر قابلية للفهم.

بهذه الطريقة تحل الرواية مكان «الُنسخ الرسمية» للماضي. يمكنها أن تسهم في كتابة التاريخ الاجتماعي أو التاريخ الاقتصادي لبلد ما. في كتبي، أحاول مثلاً أن أرسم التاريخ الاقتصادي للبنان المعاصر عبر زاوية معينة، هي التحولات في التضاريس، التي ترتبط هي نفسها بالتحول الاقتصادي، وأيضاً عبر التغيرات في الجغرافيا البشرية والتحولات في ظروف الزراعة، وأيضاً عبر التحولات الديموغرافية التي فرضتها الهجرات الداخلية، أو أيضاً عبر تبدل المجموعات البشرية في أحياء بيروت أثناء الحرب الأهلية. أقوم بكل ذلك لأني أهتم بالتحولات التاريخية العظيمة، باللحظات التي انتقل فيها المجتمع اللبناني من طور الى آخر، بين نهاية الامبراطورية العثمانية وقيام لبنان الكبير عام ١٩٢٠، أو بين نهاية الجمهورية الأولى وبداية الحرب الأهلية. لكن كل هذا، أقوم به أيضاً من زاوية حميمة، انطلاقاً من وجهة نظر أشخاص أو مجموعات صغيرة، مثل العائلة، يواجهون التغيرات، ويرفضون رؤيتها ويشرعون بمقاومتها حتى، أو على العكس يواكبونها.

■ ثقل الماضي، ثقل «الأرض والحرب» كما أشرت في مقابلة مع عبده وازن (الحياة، أيلول ٢٠١٧)، هل هو وزر ثقيل يجب على كل كاتب مشرقي أن يحمله؟
- حين أتكلم عن «الأرض والحرب»، أشير الى ما هو في صلب النوع المسمى بالملحمة. النقد الأدبي وجد في كتبي هذين العنصرين وربَطَهما بالنوع الملحمي، وهو ما يناسبني تماماً. الأرض بالنسبة لي هي مسقط الرأس، أو إقليم ترتبط به عاطفياً عائلة أو مجموعة ما، مما يضفي على ماضيها وحاضرها معنى مادياً ورمزياً. أما بالنسبة للحرب، فقد وصمت بوضوح التاريخ اللبناني، بحيث أن الحربين العالمية الأولى والأهلية غيّرتا العلاقة بالأرض، وبدّلتا كذلك في الطبقات التي تستملكها.

الهوية اللبنانية تأسست بواسطة الأساطير وما يمكن تسميته «النصوص القومية»


■ هل حمّلتَ الوزر ذاته للأبناء المتحدرين من سلالة خنجر الجبيلي، في «الامبراطور مترجلاً» (٢٠١٧)؟
بالطبع. «الإمبراطور مترجلاً» هي رواية لتاريخ العلاقات المعقدة لعائلة على امتداد ستة أجيال مع أراضيها. الإمبراطور المخصوص بالذكر هو مؤسس لملكية كبيرة في جبال لبنان. ملكية سيورثها حصراً للابن البكر في كل جيل من صُلبِه. بعد حرمانهم من الإرث، سيخرج الأخوة الأصغر في كل جيل، الى العالم مع شعور بالحرية، بعكس إخوانهم المكبلين بإدارة الترِكة. سيكتشف الإخوة الأصغر أن حريتهم وهمية، وأنهم هم أيضاً مكبّلون بقوة الردّة والرغبات، الى ماضيهم وماضي عشيرتهم. ماض سيقوم باستثارتهم دائماً بحيث لا يبتغون في اسفارهم إلا ما يذكرهم به. إلى جانب اشكالية الحرية المستحيلة، الرواية هي قصة التحول في علاقة اللبنانيين بأرضهم، بجبالهم على وجه الخصوص.

■ هل هناك نوع من خيط أريان يتوجب تعقبه في رواياتك كلها؟
- يمكن لرواياتي أن تُقرأ كل على حدة. كل واحدة تخُط حياة عائلة وعشيرة، مع مشاكلها الخاصة، صراعاتها الداخلية والعنف بين أفرادها. لكن حين توضع جنباً الى جنب، فإنها تشكل أيضاً قرناً ونصف من تاريخ لبنان.

■ هل يمكننا الحديث عن «حقيقة تاريخية» في بلد مثل لبنان وصفه كمال الصليبي بجملته الشهيرة «بيت بمنازل كثيرة»؟ وهل تشكل هذه المنازل الكثيرة غنى للفن الروائي في تناول التاريخ؟
لا أظن أن هناك حقيقة تاريخية في أي مكان، لسبب بسيط أن التاريخ يُكتب نصّاً أو شفاهة من قبل المؤرخين. إن تاريخ الأمم والعائلات أو أي مجموعة إنسانية هو ثمرة التناقل عبر التداول الشفهي. وهو بذلك عرضة للتقابل، والتسويات، والتحيز ووجهات النظر، وكذلك خلق الأساطير والخرافات. مثل كل الأمم، الهوية اللبنانية قد تأسست وتم صقلها بواسطة الأساطير وما يمكن تسميته «النصوص القومية». الفينيقيون، الأمير فخر الدين، الأمير بشير وغيرهم. لكن أبعد من القبول المطلق أو النسبي لهذه الأساطير القومية، فإن كل جماعة لبنانية على حدة لها رؤيتها الخاصة للبنان، لماضيها، ولطبيعة الأحداث التي عايشتها هذه الجماعة. كل واحدة تعرِّف لبنان حسب موقعها الجغرافي، وعلاقتها مع الجوار والآخرين، وأيضاً بحسب أساطيرها الأثيرة. أحياناً، أطرح على نفسي سؤالاً حول تاريخ أفضل للبنان يمكن كتابته، بإستبدال النسخة المتداولة حالياً والمليئة بالاختزال، والنسيان، والأشياء المكتومة والكثير من الأساطير، بنسخة أخرى يتم فيها وضع الرؤى المتعددة للبنان جنباً الى جنب. نوع من فيديرالية في التواريخ ستكون الأكثر واقعية في تاريخ بلد متعدد مثل لبنان. وبهذا، سيصبح هذا التاريخ أشبه برواية كتبها أكثر من راو.

السبت 11 تشرين الثاني: لقاء مع شريف مجدلاني حول روايته «الامبراطور مترجلاً»ـ س: 16:30 ــ صالة المؤتمرات 2