أن تهتم وتتدخل كلية الآداب في الجامعة اللبنانية بقضايا البيئة والطبيعة، وأن تعقد مؤتمراً اليوم حول «البيئة الطبيعية: إشكاليات وآفاق»، في مقرها في كسارة، أمر متقدم ومهم، لا شك، ولا سيما بعد أن أصبحت قضايا البيئة في لبنان والعالم، قضايا محورية، لا بل حياتية ووجودية بامتياز.
فإذا سلمنا بأن الوضع بات يحتاج ويتطلب التدخل، يصبح السؤال البديهي الآتي: كيف وأين؟
هل يتطلب ذلك تغييراً في المناهج والاختصاصات والتوجيه؟ أم يمكن الاكتفاء بتوجيه الأبحاث لكي تتناول المواضيع ذات صلة؟
قد يعتقد البعض أن معظم القضايا البيئية الأساسية هي من اختصاص كليات العلوم، لأنّ البيئة «علم» في النهاية. صحيح، ولكن هل هذا كافٍ؟ فأين أصبحت فلسفة العلوم، وما هو دورها في هذا المجال؟ أين أصبحت أقسام الفلسفة في كليات الآداب، وماذا يمكن أن تدرّس أو أن تعدّل في مناهجها ومقرراتها؟
ثم عندما انتصر اقتصاد السوق ورُوِّج لبضاعته عبر شبكات أخطبوطية من وسائل للإعلام والإعلان، ألم يُستَعَن بعلوم الاجتماع والنفس لدراسة اتجاهات المستهلكين وسلوكياتهم وميولهم، وكيفية التحكم بهم وجعلهم مجرد مستهلكين دون حساب أو سؤال؟
فأين الدراسات الاجتماعية والنفسية المضادة والمنقذة للمجتمع الذي جرى التمادي في تشييئه واستغلاله حتى الموت من كثرة الملوثات؟
من يفكك تلك العلاقة الجهنمية مع السوق ويعيد فصل الحاجات الضرورية عن تلك الكاذبة التي تخلقها الإعلانات والتي تجعل من الإنسان الحديث مجرد مستهلك للسلع… حتى غرقنا في نفاياتنا؟
من يعيد الاعتبار إلى الإنتاج الفكري المجرد والأصيل والمبدع، المتماهي والمهموم بالمشكلات المحلية والعالمية، بدل تحويل الطالب إلى مجرد متلقٍّ ومترجم ومنبهر بكل ما هو غربي؟
من يخلصنا من عقدة الانبهار بكل ما هو «افرنجي» ويساعد في فتح العيون على ما يدور من حولنا بصفاء ونقاء وهدوء... بعيداً عن ضجيج الأسواق والتسويق؟
ألم تجد كليات الآداب والعلوم الإنسانية نفسها معنية بأزمة النفايات الأخيرة، حين طافت مدننا بها، بعد أن كنا نخفيها في مطامر ومكبات بعيدة عن الأعين... والتي لم تكن بعيدة عن التربة والمياه الجوفية ولا نوعية الهواء الذي نتنشق؟!
ألم تشعر كليات الآداب والعلوم الإنسانية والفلسفية بأنها كانت أمام مهمة مراجعة المفاهيم السائدة نظرياً وابتداع مفاهيم جديدة منقذة؟
فماذا جنينا على سبيل المثال من مفهوم «التنمية» الذي جرى تبنيه دون تمحيص، غير زيادة المشاكل وبينها البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية؟
ماذا جنينا من مفاهيم مثل «التقدم» الذي تُرجمَ عملياً في بلادنا، كما في بلد المنشأ، في دوس ديمومة الموارد وحقوق الشعوب المستضعفة.
ماذا جنينا من الفكر العملي حين غلّبناه على النظري؟
ماذا حققنا من تبني الفكر البراغماتيكي المتطابق مع السوق غير تشييء الإنسان وتضييع الحقائق حين جعلناها شبيهة بمقومات السلع وبمدى نفعيتها الآنية والشعبوية؟
ماذا جنينا من النفعية والعلوم الإنسانية المغالية في إنسانيتها، التي تنظر إلى الموارد بحسب منفعتها وتنزع عنها أي قيمة ذاتية أو أي دور في النظام الإيكولوجي، حتى خرّبنا الأنظمة الطبيعية وسبّبنا انقراض الأنواع وبتنا نهدد نوعنا الإنساني؟
من يعيد الاعتبار إلى مفهوم «البيئة» نفسها، التي ليس كل ما يحيط بنا ويدور حولنا، بقدر ما هي نظام طبيعي متكامل ومنسجم، ليس النوع الإنساني سوى حلقة ضعيفة من حلقاته؟
أية فلسفة تزحزح الإنسان عن كونه مركزاً للكون وتعيده إلى حجمه الطبيعي كنوع من بين أنواع كثيرة؟
وماذا جنينا من مقولات وقيم «حقوق الإنسان» التي اهتمت بحقوق الإنسان الحالي وتجاهلت حقوق الأجيال القادمة... وبتنا نتصرف وكأننا الجيل الأخير على هذا الكوكب؟
ألا يتطلب ذلك إعادة النظر بفلسفة الحقوق برمتها وبمعظم التشريعات والقوانين، بالإضافة إلى الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية؟ بعد إعادة النظر بمنظومات القيم على أنواعها؟
أية فلسفة تعيد الاعتبار إلى الفكر النقدي، وتعيد طرح الأسئلة المسكوت عنها في الخطاب السياسي اليومي للنظام المستفيد من عائدات السوق والممول منه؟
أية فلسفة (أو علوم اجتماعية ونفسية أو أدب أو شعر) تعيد بناء مجتمع مدني جديد وتراجع القيم السائدة وتساهم في معالجة مشكلات العصر وأزماته وابتداع نموذج حضاري جديد وإنسان جديد؟
وأين يمكن أن نتوقع القيام بكل ذلك إذا لم نراهن على الجامعة الوطنية؟

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]