مشاغب وشاعر صعلوك!
«الشغب» سمة لم تفارق عبد المنعم عمايري (1970). نصيحة والده يحيى عمايري الأستاذ الذي تعرفه مدارس الشام رسخت في ذهنه: أن تكون ماسح أحذية يتقن عمله جيداً أفضل بمليون مرة من أن تكون طبيباً فاشلاً. هكذا، كان التفوّق والتميّز وربما التفرّد بمقدرات ممثل كبير هي سكة العمايري بعد مواصلة العمل، والنفخ في قربة المسرح المثقوبة والتعلّم من تجربة أستاذه غسّان مسعود. يخفق العمايري في خياراته مرّات، لكن حالما يخلع عنه رداء «الخطيئة» ويشمّر عن ساعديه، مقرّراً أنه يريد أن يمثّل، يطلّ بدور يكشف فيه عن إمكاناته البارعة، ويمسح غبار ما تركه من خيارات أقلّ مستوى. هذا ما حصل في دور الشاعر الصعلوك محمود في «غدا نلتقي». ليست مصادفة أن يكون اسمه محمود، فيغيّر مسار «وردة» بقصيدة لمحمود درويش يلقيها على سكر.

أصرّ المخرج على منح الدور للعمايري، لأنه يعرف بمن يضع ثقته، فالرجل خبر حانات دمشق ومقاهيها، ولمس روح مدنها جيداً برفقة شعرائها الصعاليك. عرف كيف يصنع دور شاعر صعلوك من هذه المفردات، ثم يستدعي من مشاهديه مزيداً من التأمّل، وهو يخلط الأداء المسرحي عند اللزوم بلغة التلفزيون، في مشهد يقرأ فيه أبياتاً للشاعر يوسف الخال قبل أن يعدد نخبة من قرأهم. تمكّن العمايري من جرّ المعنيين بالحرب إلى دموع وفيرة، عندما غصّ وهو يقول جملة مهمة في لحظة حقيقية تأخذ على عاتقها الدفاع عن طليقته ورفاقها الذين هربوا من ويلات الحرب إلى أميركا.

مشية كاريس بشار

لم تعرف كاريس بشّار (1975) يوماً كيف تصنع البروباغندا لنفسها. مع ذلك، فرضت نفسها نجمة صفّ أوّل قبل عقدين، متسلحة بموهبتها وبصمتها التمثيلية التي تترك على أيّ دور تؤديه روحاً ساحرة، ولو كانت شخصية في دراما سطحية مثل الدراما الشامية التي قدّمت فيها بشار نماذج ساطعة (دوراها في «ليالي الصالحية» و«أهل الراية1/2»). اعتلت ذات يوم منصّة أضخم مسرح في سوريا، أي صالة «دار الأوبرا»، مكرّمة في «مهرجان دمشق السينمائي»، فإذا بها تُبدي خجل المُبدع عندما تواجهه موجات التصفيق. الخجل ذاته كان وراء تخلّيها عن دراستها للإعلام، وتفرّغها لدراسة اللغة الإنكليزية. قصدت أميركا بعدما دفعت أثماناً باهظة قرباناً للحرب التي تبتلع سوريا، لكنها عادت مشفوعة بهاجس العمل والإبداع، فتنازلت لفترة عن المستوى الذي تطمح إليه، ثم قطفت دوراً جديداً على الدراما السورية في «قلم حمرة» ليم مشهدي وحاتم علي. وهذا العام، تربّعت على عرش النجومية العربية بدور «وردة» مغّسلة الأموات في «غداً نلتقي». تلك النبيلة التي تلبّي من يحتاج إليها، ولا تسمح للمعاناة حولها بأن تسرق شيئاً من أنوثتها، أو احتفائها بنفسها، ترقص وتضحك ولو فوق جثة هامدة. بعينين لامعتين تغرغر فيهما الدموع، تقنعنا كاريس وهي تجسّد وردة، ليس على صعيد الشكل فحسب، إنما بجمال داخلي ينعكس في لمعة عينيها وبكائها الحقيقي على طريقة معلّم التمثيل الروسي ستانسلافسكي، أي بأداء داخلي عميق ومتقن من دون انفعال وعويل ونحيب اعتدنا رؤيته في بعض الأعمال الفنية. تبقى المشية خيار كاريس الموفّق الذي يعبّر عن عفوية الشخصية، وتذكّر بنجوم عالميين يتركون بصمتهم الأخّاذة بدءاً من مشيتهم.


ممثل حرّيف

الممثل الذي شقّ طريقه الوعر من ريف دمشق وتحديداً مدينة «التلّ»، إلى شهرة مميّزة واحترام يجمع عليه زملاؤه ومعارفه، صار يمتهن تحويل الأدوار الجانبية إلى بطولات مطلقة. إنهّ محمد حداقي (1970)، أو «الحداقي» كما يعرفه الوسط السوري. ما زال يشكو ظروف المهنة الصعبة برغم اشتغاله على أدواره بعمق مهني وثقافة واسعة، وإجادته للتراجيديا بالبراعة نفسها التي يجيد فيها الكوميديا، وتقمّصه كركترات صعبة. يطلّ حداقي في كل مرّة هو ذاته، لكنّ أداءه وإحساسه يختلفان جذرياً. لذا لا يمكن لمروره إلا أن يترك أثره وبصمته في أيّ دور يؤديه. في «غداً نلتقي»، يترك لنا علامات استفهام وافرة. بصمت، يتنقل في الملجأ بين مكان وآخر. لا شيء يشي بأنّ الشخصية ستكون محورية وصاحبة جدل سوى صمته المطلق. ممثّل لا يتكلّم أيّ جمل، ويترك بصمة في مكانه ببراعة، هو ممثل حرّيف حتماً. يقف في مكانه المفضّل على سطح البناية، ويخرج من جيبه ورقة الـ 100 دولا، يفردها بلقطة نادرة ويرميها لـ «أبو رياض» (فوزي بشارة)، كدفعة من أجرة غرفته. يستخدم عضلات وجهه بطريقة واقعية حدّ التطابق مع الحقيقة، عندما يضرب فيه السّلم فيقع من سطح المدرسة إلى الأرض من دون أن يتأذّى. تتلقّفه رغبة ناظلي الروّاس العارمة في التخلّص من زوجها، حتى لو منحته نفسها بأسلوب تخطّت به كل أدوراها السابقة. كل هذا الخوف الذي يزرعه الرجل في دهاليز المكان، تحيله أمّه منى واصف وهماً بضربة حذاء على رأسه وتوبيخ رفيع المستوى ومشاهد معدودة هي مرور للنجمة العريقة في واحة العمل السوري الأبرز منذ عقد.


شامخ مثل قاسيون

ينتمي إلى فلسطين من جهة والده، وإلى لبنان من ناحية أمه، لكنه ربما ينتمي أكثر إلى سوريا لكونه ولد في ريف دمشق وتحديداً في دوما المدمرّة. دوما التي عرف عنها نخوة رجالها في إغاثة الملهوف وإكرام الضيف، سُحقت وهدّمت فوق رؤوس أهلها، لكن تيسير إدريس (1949) بقي شامخاً مثل قاسيون، قوياً بقوة الشعب الفلسطيني المقاوم. ورث عن أبيه وأمه الصوت الجميل في تجويد القرآن وتلاوة القصص، لكن شخصيته صقلت في مدارس وكالة الغوث (الأونروا). لذلك، سيكون سهلاً عليه لاحقاً أن يركب قافلة الحراك الثقافي والمسرحي في سوريا السبعينيات، ويعتلي خشبات المسارح في المخيمات الفلسطينية ودمشق، ليقدّم أدواراً تعبّر عن مأساة الفلسطينيين وجدوى المقاومة. ذلك الحراك الثقافي جذب الشاب اليافع، ليتحوّل لما يشبه «الجامعة العربية» وهو يحمل هموم شعبه الفلسطيني والسوري واللبناني. كل ما سبق مهّد له المهمة الأنضج، فكان ورقة رابحة في «غداً نلتقي». بدور «أبو ليلى»، يقدم إدريس شخصية كأنّها هاربة من «مسرح العبث»، لكن المخرج ردّها إلى واقعيتها مناضلاً فلسطينياً لاذ بمجمع اللاجئين السوريين بحثاً عن سميّعة لبطولاته، ساعياً وراء لمّ الشمل مع ابنه بعدما ضيّع له ماله بالقمار.
يقبض على دواخل مشاهديه عندما يقول لصديقه محمود بلكنته الفلسطينية والنخوة تقطر منها «إيش مفكر إنت العرق والدخان والمصاري لازم يكونوا ملكية عامة للشعيب. كل واحد يوخوذ حاجتو منها ويمشي إلااا». يحنّ إدريس إلى الأدوار المسرحية، لأنه يُعيد فيها تأهيل أدواته، لكنه هذه المرة حقق في التلفزيون ما يطمح إليه في «أبو الفنون».

جابر تحدى نفسه

منذ دخوله ميدان التمثيل، لم يحتج مكسيم خليل (1978) إلى واسطة أو دعم كما حصل مع غيره برغم أن والدته هي خبيرة الماكياج الشهيرة ستيلا خليل. منذ مشاهده الأولى على الشاشة، كان مكسيم واعداً. عشرات البطولات مع كبار المخرجين المعروفين في الدراما السورية منهم: حاتم علي، ورشا شربتجي، وشوقي الماجري صنعت له هامشاً خاصاً، لكنه خسر الكثير عندما اعتلى منصة تكريمه كأفضل ممثّل عربي في الـ «موركس دور» قبل سنوات، وطالب بالحرية لزملائه الفنانين المعتقلين. هنا تعرّضت أملاكه في طرطوس للاغتصاب وسميّ «الخائن» لدى شريحة صغيرة تُغالي في حبّها ودفاعها عن السلطة. ثم تبعت ذلك محاولة التعدّي عليه في بيروت في مسبح «السان جورج»» (الأخبار 28/8/2013) على يد متطرفين أيضاً. كلّ ذلك فقط لأنه امتلك جرأة يفتقدها المئات من زملائه. مكسيم صار اسماً بيّاعاً بعد ثنائيته مع سيرين عبد النور في «روبي»، وصنعَ لموهبته النادرة مساحة في «هوليوود الشرق». أما في العمل السوري الخالص، وتحديداً في «غداً نلتقي»، فقد تحدّى نفسه ليجسّد شخصية مختلفة عن قناعاته من دون أن يجعلنا للحظة واحدة نشعر بذلك، حتى وهو يحاكم هذه الشخصية بأسلوب الأداء ونبرة الصوت والثبات الواضح في العينين. كأنه يقول إنه ليس ضدّ المؤيدين للنظام، لكّنه ضدّ القتل والتحريض. «جابر» مات كما مات الشاعر، وظلّت وردة تعيش بعد احتراق بيتها لكنها في غربة ووحدة قاتلة!.

عظمة على عظمة

ابن عائلة دمشقية عريقة، عَرف التمرّد منذ الصغر. تنازعته هواجس الرياضة والفنّ. في طفولته، لعب كرة السلّة ثم اتجه إلى فنون القتال، وتحديداً الملاكمة، لكنّ شخصيته لم تتقاطع يوماً مع هذه اللعبة، هو المعروف بحالته المسالمة البعيدة عن الخلافات التي اشتهر بها الوسط الفني في سوريا. عندما كان عبد الهادي الصباغ (1950) في مُقتبل العمر، تعرّف إلى الممثل الراحل يوسف حنّا. يومها، وضعه الممثل المثقّف على الطريق الصحيح فأرشده إلى المسرح العالمي والعربي. لم يكن حينها رامي حنا ابن عم يوسف قد ولد بعد. لاحقاً سيكون الصباغ من أوائل الممثلين الذين ساندوا رامي عندما اختار الإنتقال من التمثيل إلى الإخراج في عمله الأول «زهرة النرجس» (2008). حينها لم يكن معلوماً لدى أحد بأنّ الصبّاغ سيجسد أجمل أدواره تحت إدارة المخرج المسكون بهاجس إبداعي خاص. يؤدي الممثل دوره بحرفية عالية في «غداً نلتقي»، ويستمدّ من يوميات «أبو عبدو» المسحوقة سحرية لاذعة وتهكمية بمزاج عالٍ. يعبث مع عائلته بتلك الروح الساخرة. يفشل «أبو ليلى» في إقناعه بأن يكون نديماً ولو بكأس عرق يتيمة، مع أنه كان على مقربة من ذلك.
ولو فعلها وخرج متراقصاً بثيابه الداخلية مثلاً في مشهد كوميدي مؤثر، ثم استفاق على نفسه ليكتشف «فداحة» الخطأ الذي ارتكبه، لكانت الردّة الدينية التي اعترت الشخصية لاحقاً مبرّرة على نحو أعمق مما ظهرت عليه. على أي حال، يضحّي الصبّاغ من أجل الشخصية، فنراه يحلق شعره في مطلع المسلسل في مشهد ينسجم كلياً مع الكوميديا السوداء التي تصبغ مفردات «أبو عبدو» ليكون واحداً من ألمع نجوم الدراما السورية في هذا الموسم.

كاتب من الطراز الرفيع

تخرّج أياد أبو الشامات ( 1974) من «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق (قسم التمثيل) عام 1996. تشارك مع رفيقه رامي حنا هموماً كبيرة، لكنه وجد في النصوص التي اضطر لتجسيد أدوار منها هزالة لا تضاهى! هكذا، قرّر إنشاء ورشة سيناريو جمعته بصديقه حنا والسيناريست الفلسطيني السوري محمد أبو اللبن، لتكون النتيحة فشلاً في إيجاد منتج لنصّ يصعب تنفيذه، لكن السنوات الثلاث التي انقضت أثناء العمل على هذا النصّ (لم يسوّق)، تركت أثراً واضحاً في سعة الاطلاع والتعرّف إلى فنّ السيناريو وأساليبه، كما أتاحت له فرصة قراءة نصوص عدّة مكتوبة على الورق، لكنّ الوقت لم يكن متاحاً لإعادة التجربة طالما أنه كان ممثّلاً رائجاً قدّم عشرات الأدوار في مسلسلات عدة، منها «الثريا» لهيثم حقي «وشاء الهوى» لزهير قنوع و«أشواك ناعمة» و«بنات العيلة» و«تخت شرقي» لرشا شربتجي. مع ذلك، كان مروره في التمثيل عادياً يشبه البقية من دون خصوصية أو لمعة النجم الخاص.
اشتعل الحريق في بلاده، فقرّر السفر إلى باريس. هناك، بات يملك وقته، فلاذ بحلمه القديم وكانت الكتابة مرّة ثانية مع صديقه حنا المقيم في بيروت هذه المرة. تشاركا البناء الدرامي للقصة ثم استفرد أبو الشامات في صياغة مسلسل مكتوب بعناية هو «غداً نلتقي»، فطرح نفسه كاتباً من الطراز الرفيع في عمل أوّل يدعوه فعلياً لتهميش التمثيل، والتفرغ النهائي لمزج الكوميدي بالتراجيدي في شخصيات واقعية تلعب بطريقة رمزية، فتقول الحقيقة كاملة من دون أن تقولها.