في كل سنة، لا سيما في مثل هذه الأيام، يتصاعد دخان حرائق الغابات في كثير من بلدان العالم العربي على غرار لبنان والجزائر وتونس، بعد المرور بصيف بات أشبه بكابوس لنشطاء البيئة وأصدقاء الطبيعة، يخافون فيه من النيران التي تخلف رماداً وسواداً مكان الشجر والظلال. فهل يقتصر تأثير ما يحدث كل سنة على المشهدية العامة للغابات ومناظر الطبيعة الخضراء أم أن الأمر أشد خطورة من ذلك ويمثل تهديداً آخر لبقائنا كبشر؟
أيّة وظائف للغابات؟

برأي الخبير البيئي التونسي محمد عادل الهنتاتي هناك انعكاسات مختلفة لحرائق الغابات. فعلى غرار كل العناصر المكونة للمنظومة البيئية الطبيعية تتميز الغابات بتعدّد وظائفها التي تمثل رهاناً أساسياً لضمان توازن المنظومة الطبيعية واستدامتها. وفي معرض الحديث عن أهم وظائف الغابات، يمكن التركيز على الوظائف الاقتصادية بما توفره الغابات من مصدر لإنتاج الخشب والمواد الغذائية ومستحضرات التجميل والأدوية، كذلك الوظائف الاجتماعية التي يمكن حصرها في استقطاب السكان وتوفير مواطن الشغل والترفيه إلى جانب دورها المحوري في تنشيط العديد من الرياضات على غرار الصيد البري. هذا علاوة على الوظائف البيئية التي تتداخل منافعها بما يكسب للغابات مكانة جوهرية في تحديد مدى توازن المنظومات البيئية الطبيعية.

محطة لتطهير الهواء

بيئياً، الغابة والشجرة هما بمثابة "محطة لتطهير للهواء"، ولكنها محطة تشتغل طبيعياً دون استثمارات ودون أن يبذل البشر أي جهد، هذا الى جانب كونها موئلاً للعديد من الأصناف الحية النباتية والحيوانية علاوة على أنها تعمل كمرطب للمناخ المحلي بالمناطق المجاورة، عبر استجلاب الأمطار وتوفير الرطوبة في الجو عند فترات الجفاف وارتفاع الحرارة المحلية.
تعمل الغابات على مسك التربة والرمال ومقاومة الانجراف والتصحّر لضمان إنتاج الغذاء على سطح الأرض، وهذا الدور لا يمكن تعويضه في الأوساط الطبيعية خاصة في البلدان التي تتعرض بصفة مستمرة لظاهرة التصحر وتشكو من عدم تجدّد التربة بها كما هو الحال في بلدان شمال إفريقيا.

وقف استجلاب المطر

من أهم أسباب التغيرات المناخية ارتفاع نسبة تركز عدد من الغازات في مستوى الطبقة الوسيطة من الغلاف الجوي، ومن بين هذه الغازات أكسيد الكربون الذي يتزايد منسوب انبعاثه في الجو من أنشطة البشر على سطح الأرض. وبالتالي فإن احتراق الغابات يزيد من منسوب تصاعد أكسيد الكربون في الجو بما يضاهي، عبر بعض الدراسات الأميركية، ما تنفثه أنشطة النقل والتنقل ومحركات وسائل النقل من هذا الغاز. ما يعني أن حرق الغابات يساهم في تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري واضطراب المناخ.
وبتراجع المساحات المشجرة على سطح الأرض بعد احتراق الغابات، يفقد سطح الأرض شيئاً فشيئاً قدرته على امتصاص وخزن جزء هام من الحرارة التي تطلقها الأرض نهاراً من الشمس، فيرتفع بذلك منسوب الحرارة التي لا يستطيع سطح الأرض تخزينها، وبالتالي يزيد في استفحال ظاهرة الاحتباس الحراري لارتفاع حجم الكتلة الحرارية التي تنحصر في مستوى الغلاف الجوي الوسيط، وهو ما يسمّى بظاهرة "الانعكاسية" في علوم الفيزياء الطبيعية.
وبما أن الغابات تمثّل أحد العناصر الطبيعية التي تستجلب الأمطار على المستوى المحليّ، فإنّ إزالة المساحات الغابية تساهم في تقلّص حجم الأمطار السنوي الذي تنتفع به المنطقة المجاورة للغابة، وقد بينت الدراسات هذه الحالات في تونس على وجه المثال.
وبما أن من أهم الآثار المحدّدة للتغيرات المناخية اضطراب توزيع الأمطار وارتفاع متوسط درجات الحرارة على سطح الأرض، فإنّ حرق الغابات يمثّل أحد الأسباب في ارتفاع درجات الحرارة محلياً وكونياً على سطح الأرض ويتحول إلى عامل فاعل في اضطراب توزيع الأمطار محلياً، وقد بينت العديد من الدراسات هذه الآثار التي كانت في التسعينيات من القرن الماضي من باب الاحتمال، فصارت حالياً من بين الآثار الحقيقية الحاصلة آجلاً وعاجلاً.

تراجع الثروة الحيوانية

احتراق الغابات يزيد
من تصاعد الكربون
في الجو كما تفعل وسائل النقل

ما تأثير تقلص مساحات الغطاء النباتي على الثروة الحيوانية؟
الغابات هي الموئل الأساسي لجلّ الكائنات الحية النباتية والحيوانية لأهمية الوظائف البيئية والاقتصادية التي تسديها. وقد تم تسجيل تراجع مفزع في حجم وعدد العديد من الأصناف الحية التي كانت تعمر سطح الأرض بعد تراجع المساحات الغابية وتدهور غابات طبيعية كبيرة، حيث بيّنت الدراسات التي تم اعتمادها عند وضع الاتفاقية الدولية للتنوع البيولوجي أن تراجع الأصناف الحية المسجل في القرن الماضي لا يمكن أن يعوّض لأن الوظائف البيئية الطبيعية للغابات لا يمكن أن تسترجع قدرتها الأصلية بعد عمليات التشجير بغية الرفع من المساحات الغابية على سطح الأرض. ومن هنا تتأكد أهمية الغابات في الحفاظ على التنوع البيولوجي على سطح الأرض خاصة لضمان تجدّد الأصناف الحية المستعملة لإعداد الأدوية وكل المستحضرات الكيميائية والبيولوجية للصناعة وبقية الأنشطة الاقتصادية الأخرى، من ناحية، ولصيانة قدرة المنظومات الطبيعية على ضمان نسق التجدد الذاتي لكلّ الأصناف الحية بما يناسب نسق ارتفاع وتزايد البشر على سطح الأرض، وهو ما يُعتبر من أكبر التحديات المفروضة على البشرية حالياً.

إرباك الأنشطة الفلاحية

ما تأثير خسارة المساحات الغابية على التربة والموارد المائية والنباتية؟
كما تبين الوظائف البيئية والاقتصادية للغابات، فإن هتك الغابات أو إزالتها عبر الحرائق يساهم في تنامي عوامل الانجراف والتصحّر التي تتلف التربة الصالحة للزراعة بما ينهك ويربك الأنشطة الفلاحية من جوانب مختلفة. فالكساء الغابي وما يحتويه من أحراج يمثّل الضامن الأساسي لثبوت الأرض الزراعية والحافظ الأساسي لمخزون المواد العضوية بها بما يضمن تجدد خصوبتها التي تعطي الإنتاج النباتي ومنه الغذاء للناس وللحيوان.
ترتفع أهمية الدور الوقائي للتربة الزراعية الذي تسديه الغابات في البلدان التي أضحت الأرض الزراعية فيها مورداً طبيعياً موروثاً لا يتجدّد، حيث أنه بافتقاد متر مربع من الأراضي الزراعية عبر الانجراف والتصحر، تفقد هذه البلدان قدرتها على ضمان أمنها الغذائي لأجيالها الحالية والقادمة.

تصحر وخفض الأعلاف

وبارتفاع نسق عوامل التصحر، تفقد الأرض قدرتها على مسك المياه فيرتفع منسوب السيلان بعد الأمطار على حساب تسرب المياه المطرية نحو الموائد المائية الباطنية، فيرتفع تباعاً منسوب الفيضانات في السيول والأودية من يقود إلى فيضانات مدمرة تتسبّب في ضياع مليارات من المياه المطرية في البحار، في حين أن السكان في أمسّ الحاجة لهذه المياه العذبة الضائعة، إذ أن كل هذا يحدث أكثر فأكثر كلما تقلص حجم الغطاء الغابي.
من جهة أخرى، يمثل تراجع المساحات الغابية عبر حرق الغابات أحد الأسباب الهامة في تراجع إنتاج الأعلاف الطبيعية التي يعتمد عليها قطاع تربية الماشية الذي يوفر أسباب العيش لسكان الغابات أو المناطق المتاخمة لها ما يعني تهديداً مباشراً لحياة هؤلاء الذين قد يُقادون إلى فقدان مصادر عيشهم بصفة كلية.




ما لا يمكن تعويضه

لا تقتصر خسارة الغابات على الجانب البيئي فقط. يبيّن هذا الاستعراض السريع لمختلف الوظائف التي تسديها الغابات أن الخسارة التي تلحق بالمجتمع جراء حرق الغابات لها أبعاد اقتصادية كبيرة لا يمكن تعويضها، خاصة عندما تكون الغابات المحروقة هي من الغابات الطبيعية الموروثة. فتعويض مساحة غابية عبر التشجير يتطلّب عشرات السنين في صورة ما استطاع الإنسان أن يحافظ على نسق التشجير ويعمل على نجاح النباتات المستغرسة، وهو عمل مضنٍ يتطلّب الجهد واحترام المواطنين القاطنين بجوار المساحات الغابية لهذه النباتات.




الخسارة الاجتماعية

أما الخسارة من الجانب الاجتماعي فهي مكلفة جداً، لأن الغابات في العالم العربي لوحده تأوي ملايين الأشخاص الذين يعيشون مباشرة مما توفره الغابة من موارد طبيعية وأنشطة ترفيهية واستجمامية تمثل مصدر العيش لهؤلاء السكان، كما أن الغابات تساهم في توفير دخل إضافي للعديد من الأسر التي توفر لنفسها مصدر عيش إضافي عبر ما تنتجه الغابة.
يقودنا كل هذا في النهاية إلى إدراك حجم الخطر المحدق بنا، وأن الغابة ليست جنة ساكنيها فقط بل إن زوالها يمثل جحيماً قادماً لكل أولئك الموجودين في محيطها والذين يغضّون الطرف عما يحدث لها من هتك وتنكيل باسم الأنانية ومنطق العيش كـ"الإنسان الأخير".