توجد المئات من المواد والنظائر المشعّة، سواء الموجودة في الطبيعة أو تلك التي ينتجها الإنسان لتطبيقات معيّنة أو في اختبارات علميّة في المختبرات المختصّة، ويمكن أن يصل الكثير منها إلى الهواء، وأن ينتشر مع الريح من دولة إلى أخرى.
لكنّ الأسبوع الماضي، شهد فورةً في إحدى نظائر (isotopes) مادة «الروثينيوم» Ruthenium، وتحديداً الروثينيوم 106 الذي يحوي في نواته 106 جزيئات من البروتونات والنيوترونات. وقد تمّ رصد هذه المادّة المشعّة في أجواء كلّ من ألمانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وفرنسا. وبالنظر إلى توزّع هذه الدول، يمكن الاستنتاج أن الانتشار الرئيسي له كان في أجواء أوروبا الغربية والوسطى. وبعد إجراء الدراسات تبيّن أن معدّلات انتشاره في الجو لم تصل إلى مرحلة الخطر وظلّت تحت الحدّ الأقصى المسموح به في كل هذه الدول، ممّا لا يشكّل خطراً طارئاً على الصحة العامة، إلّا أنّ مستوى الأشعة يبقى أكثر من المعدّل العام المسجّل على مدى السنوات الماضية بأضعاف عدّة.

مصادر محتملة

من المعروف أنّ هذا النظير من الروثينيوم يستعمل في بعض العلاجات الكيميائيّة لمرض السرطان، وتحديداً لسرطان العين، وللأورام السطحيّة التي لا يزيد عمقها عن 7 ميلليمترات. وهذا يعني أنّ هذه المادّة يتمّ إنتاجها في العديد من المختبرات الطبيّة وشركات الدواء المنتشرة في معظم الدول الأوروبيّة من أجل استخدامه في تلك العلاجات. كما يتمّ استعمال هذه المادة في المولدات الحرارية الكهربائية التي تعتمد على المواد المشعّة لتوليد الطاقة، وهذا النوع من المحركات يُستعمل تحديداً في الأقمار الاصطناعية التي لا يمكنها حمل أو نقل الوقود التقليدي إليها. أما المصدر الثالث فهو يمكن أن يتشكّل نتيجة حوادث أو تسرّبات في محطات الطاقة النووية الكهربائيّة التي تنتج عشرات الأنواع من المواد المشعّة وبينها الروثينيوم. لكنّ المصدر الثالث، في هذه الحالة تحديداً يمكن استبعاده بشكل قاطع لأنّ الارتفاع الوحيد الذي جرى رصده كان في مادة الروثينيوم، فيما تؤدي الحوادث النووية داخل المفاعلات إلى تسرب العشرات من المواد المشابهة معاً. وفي هذه الحالة لا يبقى غير متّهمين علميّين اثنين: شركات الدواء العملاقة المنتجة لهذه المادة، أو المصانع المنتجة للمحرّكات المستعملة في الأقمار الاصطناعية، وكلّها ليست كثيرة كي يبقى الفاعل مجهولاً.

أوروبا تتّهم روسيا وروسيا تنفي

ربط الإعلام الغربي مباشرةً بين هذا الارتفاع المفاجئ في نسب الإشعاع ونشاطات محتملة تقوم بها روسيا، كما صرّح «مكتب الحماية من الإشعاعات» الألماني أن تحليلات مكتبه تشير إلى أنّ مصدر هذه الانبعاثات التي رصدت في ستة مواقع مختلفة في بلاده، يأتي من مناطق جنوب الأورال أو من مناطق أخرى في جنوب روسيا.

المتهمون شركات الدواء
أو المصانع المنتجة لمحرّكات الأقمار الاصطناعية


وذهبت بعض وسائل الإعلام إلى وضع فرضيّة قيام روسيا بتجربة سلاح نووي جديد قد يكون سلاحاً نووياً تكتيكياً صغيراً جرى اختباره في القطب الشمالي، ما أدى إلى انتشار الانبعاثات الناجمة عنه في دول القارّة. لكنّ الاحتمال ذلك يبقى أيضاً خارج دائرة التقدير العلمي، إذ سينجم عن أيّ انفجار نووي، كما عن أي حادث في محطة طاقة نوويّة، باقة منوّعة من المواد المشعّة التي يسهل رصدها من قبل أيّ باحث مبتدئ، كما يمكن ملاحظة تأثيراته من خلال الأقمار الاصطناعية أو من خلال الهزّات الارتداديّة التي يولّدها أي انفجار.
على المقلب الروسي، نفت وكالة الطاقة الذريّة الروسية الرسميّة «روس أتوم» كلّ تلك المزاعم، وقالت إن نشاط كلّ المنشآت النووية في روسيا يسير بشكل طبيعي وأن مستويات الأشعّة في بلادها لم تتخطَّ مستوى الإشعاع الطبيعي الخلفي (natural background radiation). وفي الوقت عينه كشفت تسجيلات مؤسسة الأرصاد الجويّة الروسيّة أن مستوى الأشعّة ومعدّلات انتشار الروثينيوم كان مستقراً في كل الأراضي الروسيّة باستثناء ارتفاع طفيف لوحظ في مدينة سان بطرسبرغ في الأسبوع الأخير من شهر أيلول، ولم يتجاوز مستواه ربع المعدّل الأقصى المسموح به.
وفي حين رصدت هذه الانبعاثات في دول عدة في أوروبا الغربية، لم تحصل تسجيلات مشابهة سواء في روسيا أو في دول أوروبا الشرقيّة، ما يشير إلى مصادر انبعاثات محتملة داخل تلك الدول نفسها بحسب ما أشارت دراسات أخرى.

انبعاثات شبيهة منذ بضعة أشهر

في مطلع العام الحالي رصدت مؤسسة الحماية من الأشعّة والسلامة النووية الفرنسيّة ارتفاعاً مفاجئاً في مادة مشعّة أخرى هي «الأيودين Iodine 131»، وقد انتشرت تلك المادة إلى دول أخرى مثل إسبانيا وفنلندا في سيناريو مشابه للحدث الأخير مع فارق في المادّة المتسرّبة، وقد خلصت التقديرات في المرّة السابقة إلى أنّ المصدر يعود إلى احتمال من اثنين: انبعاثات قادمة من روسيا أو شرق أوروبا، أو انبعاثات من إحدى شركات الدواء التي تنتج هذه المواد لاستعمالها في التطبيقات الطبيّة. لم يتوسّع أيّ مرجع علمي أو قضائي لتحديد دقيق للمصدر الذي يمكن أن يكون اليوم يبثّ إشعاعات أقلّ من معدلات الخطر، لكنّه قد يتخطّاها في حادثةٍ مشابهة.