تكرّست مواقع التواصل الاجتماعي مصدراً مهمّاً للأخبار والمعلومات، فيما تتجنّد الشركات القائمة على هذه المنصات وبعض الحكومات في الفترة الماضية لمكافحة انتشار الأخبار الكاذبة. في ظل هذا المشهد، تتزايد المخاوف والأسئلة حول مصير مهنة الصحافة وشكلها في زمن السوشال ميديا: هل لا تزال مهمّة؟ مَنْ هم صحافيو الغد، وما هي المهارات التي يجب أن يتمتعوا بها؟ كيف سيكون شكل غرف التحرير والأخبار في المستقبل؟
المحاولات للإجابة عن هذه الهواجس كثيرة جداً فيما الأبحاث مستمرّة منذ سنوات لهذه الغاية، مركّزة في غالبيتها على دور المواطنين في تزويد وسائل الإعلام على مختلف أنواعها بالمواد الإخبارية. أبرز الدراسات التي تناولت هذه النقطة بإسهاب، كانت تلك التي أعدّتها الإعلامية جنيفر أليخاندرو من سينغافورة عام 2010 تحت عنوان «الصحافة في عصر السوشال ميديا» (جامعة «أكسفورد» البريطانية و«معهد رويترز لدراسة الصحافة»). في هذه الورقة البحثية المعمّقة، رأت أليخاندرو أنّ تفجيرات لندن في تموز (يوليو) 2005 شكّلت دليلاً واضحاً على أهمية دور المواطن في إمداد الصحافيين بالمعلومات من موقع الحدث، قبل أن تؤسس «هيئة الإذاعة البريطانية» في عام 2010 دائرة إعلامية متخصصة بمتابعة الأخبار الواردة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسم user generated content department (المحتوى الذي ينتجه مستخدم السوشال ميديا)، تضم أكثر من 23 صحافياً يعملون على تلقي الأخبار والصور والفيديوات، والتأكّد من صحّتها، والتدقيق في مصادرها وأصالة الحسابات والصفحات التي تنشرها.

أسست bbc في 2010 وحدة خاصة بمعالجة المحتوى المقدّم من قبل روّاد مواقع التواصل الاجتماعي

تعتبر خطوة «بي. بي. سي» هذه إشارة بسيطة إلى مدى تغيّر عالم صناعة الأخبار بشكل مطرد ومستمر، في محاولة لمواكبة التطوّر الهائل الحاصل في العالم الرقمي. في هذا السياق، أوضح «معهد رويترز لدراسة الصحافة» في دراسة أخرى نشرت نتائجها في حزيران (يونيو) 2016 أنّ 28 في المئة من الشباب بين 18 و24 عاماً باتوا يعتمدون على مواقع التواصل كمصادر أساسية للأخبار، مقارنة بـ 24 في المئة يفضلون وسائل الإعلام التقليدية، على رأسها التلفزيون. في ورقتها البحثية، استطلعت جنيفر أليخاندرو مديري تحرير في دول مختلفة، لتخلص إلى أنّ خمسة من أصل ستّة شددوا على أن أبرز ما يميّز السوشال ميديا هي «السرعة»، لافتين إلى أنّ غرف التحرير التابعة لهم تركّز في استخدامها لهذه المنصات على الترويج للمواد المنشورة وللمؤسسة ككل، مما يساعد مواقعها الإلكترونية الرسمية على الانتشار. ولا يُخفي هؤلاء أنّ أكبر مخاوفهم تتعلّق بـ «الدقة»، خصوصاً في ظل صعوبة التحقق من المعلومات وفقدان السيطرة على سَيْلها. في السياق نفسه، تواصلت المذيعة في قناة Channel News Asia مع 135 صحافياً حول كيفية تأثّر طبيعة عملهم بالسوشال ميديا، بدءاً من جمع المعلومات وصولاً إلى تقديمها إلى الجمهور. أقرّ الجميع بصعوبات مرتبطة بالسرعة وضرورة امتلاك الخبرات الضرورية لاستخدام السوشال ميديا (خصوصاً فايسبوك وتويتر) بشكل صحيح، غير أنّهم أوضحوا أنّ أكبر تحدٍّ يكمن في ضرورة استعدادهم الدائم للإجابة عن أسئلة مستخدمي الإنترنت، فضلاً عن مواجهة الإطراءات من ناحية والانتقادات التي قد تتجاوز حدود المقبول من ناحية ثانية.
يمكن القول إنّ هذا الكلام صار من البديهيات، لا سيّما بعد الدور البارز الذي أدّته مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الماضية في ميادين عدّة، أكثرها أهمية وحساسية الحروب والنزاعات التي اندلعت في الكثير من البلدان. إلا أنّ النقاش الإعلامي حول التعديلات الطارئة على المهنة وعمل أهلها لا يزال قائماً في العلن وفي الكواليس، فيما المحاولات مستمرّة لإيجاد شكل جديد لها يمنعها من الموت، أو «إعادة اختراعها» إذا جاز التعبير!
في الوقت الذي تجنح فيه المؤسسات الإعلامية أكثر باتجاه مبدأ «الرقمي أوّلاً»، تغيّرت المهارات المتوقع وجودها لدى العاملين فيها وكذلك الأمر بالنسبة للمهمات المطلوبة منهم. هذه هي الفكرة الرئيسة التي خاض فيها البحث الذي أجرته ليزيت جونستون العام الماضي في جامعة «سيتي» اللندنية.
«عليهم أن يمتلكوا «دهاءً» تكنولوجياً إلى حد ما»، قالت جونستون، مشدّدة على أنّ العمل على إعادة تعريف مهنة الصحافة جارٍ على قدم وساق، وبالتالي الأداء المطلوب في غرف التحرير، على أن تتضح الصورة أكثر في غضون السنوات القليلة المقبلة، في الوقت الذي «يتوقع فيه البعض أن يصبح العمل في مطابخ الإعلام محصوراً بالمعلومات الواردة من السوشال ميديا»!
في البحث الذي نشرت نتائجه مجلة «الصحافة الرقمية» في أيّار (مايو) 2016، لجأت ليزيت بدورها إلى bbc وقسمها الخاص بالمواد المقدّمة من قبل مستخدمي السوشال ميديا (UGC). بعد مرور ست سنوات على انطلاقتها، تواصل هذه التجربة اكتساب المزيد من الأهمية والحرفية. النموذج الأكثر وضوحاً بالنسبة لجونستون كان التقارير حول النزاع القائم في سوريا منذ عام 2012، ما دفعها إلى دراسة ساعات من المواد المصوّرة إلى جانب إجراء مقابلات مع مراسلين وعاملين في غرف التحرير. كما كان متوقعاً، أمسى المحتوى المقدّم من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي الجزء الأساسي والأكبر من المادة الإخبارية. على سبيل المثال، أكثر من نصف التقارير الـ 35 حول التطوّرات السورية التي حلّلت مضمونها بدأت بمقاطع منشورة افتراضياً! اللافت أنّ الاعتماد على المادة المصوّرة المتوافرة على السوشال ميديا في عمل «هيئة الإذاعة البريطانية» تزايد مع تفاقم صعوبة وجود المراسلين على الأرض. لكن هذا ليس سوى جزء من القصة، إذ أنّ الصحافيين الذين شملتهم مقابلات ليزيت عبّروا عن شعورهم بأنّ عليهم «تطوير عدد من المهارات المنوّعة الجديدة ليتمكنوا من معالجة المحتوى الموجود على المنصات الرقمية». فهم صاروا منخرطين يومياً في عملية «تجميع الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي»، بحثاً عن صور وشهود عيان وفيديوات وجهات وأشخاص يمكن التواصل معهم، وهو توجّه يحظى بدعم المسؤولين.
لم ينف الصحافيون التحديات التي يواجهونها نتيجة هذا التحوّل، لا سيّما بالنسبة إلى التعامل مع التدفّق الهائل للمعلومات وكيفية التدقيق في مدى صحّتها. علماً بأنّ هاتين العمليتين تصبحان أصعب في مناطق النزاعات، حيث يمكن للتواصل مع صاحب المعلومة أن «يعرّض حياة الطرفين للخطر». إذاً، يمكن القول إنّ الصحافيين أضحوا يشبهون المحققين، إلا أنّه بعيداً عن التدقيق في المعلومات يبقى عليهم إتقان كيفية استخدام المحتوى لجهة نسبه إلى مصدره، وتصنيفه مع مراعاة الأصول القانونية. أما مستقبلاً، فتعتبر ليزيت جونستون أنّه من البديهيات أن يكون الصحافي على الأقل قادراً على تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي بشكل سليم ومهني وعملي في آنٍ ومعالجة المواد على اختلاف أنواعها. أحدث الدراسات التي تناولت التغييرات التي ستطرأ على الإعلام أجريت أخيراً في كلية «ستيرن» لإدارة الأعمال التابعة لـ «جامعة نيويورك» الأميركية، وتشدّد على أنّ «الذكاء الاصطناعي يهدد مستقبل هذه المهنة»، مرجّحة أنّ يبدأ التأثير الفعلي في غضون 24 إلى 36 شهراً. وفيما لفتت إلى ضرورة تلقي الصحافيين التدريب المناسب، أوضحت الدراسة أنّ بعض التقنيات ستقدر على شرح البيانات المرئية وتطوير خوارزميات رياضية لكتابة الأخبار وجمع البيانات وتحليلها، ما سيمكّن الصحافيين من القيام بعمل «كثر تنوّعاً وعمقاً، وسيساعدهم في التحرير والتأكّد من صحة المعلومات».
إذاً، من الواضح أنّ أبرز اللاعبين في مجال صناعة الإعلام حول العالم، يسيرون بسرعة على طريق البحث عن أدوات وتقنيات ومؤهلات جديدة تساعد في مجاراة «الجنون» الرقمي الحاصل الذي يؤثّر على كل جوانب المهنة، في إطار السعي إلى الحؤول دون «موتها». لكن أين العالم العربي من هذا الواقع، حيث لا يزال الأداء الإعلامي في هذه البلدان متخبّطاً وبعيداً عن المهنية وقريباً من الاستسهال وغارقاً في زواريب التسييس؟