حتى صباح الاثنين الماضي، كان بعض القضاة يجهلون مصيرهم الذي حددته التشكيلات القضائية الأخيرة. فقد تحولت إلى مادة انتخابية وسياسية بين الأفرقاء، وكشفت بعض أوراقها في وسائل الإعلام وعلى منابر المسؤولين، قبل أن يوقّع عليها رئيسا الحكومة والجمهورية. علماً بأن العرف يقضي بأن تبقى التشكيلات سرية وداخلية ضمن مجلس القضاء الأعلى الذي يفترض أن يقررها بمفرده ثم يعرضها في النهاية على وزير العدل الذي يوقعها بعد أن يضع عليها ملاحظاته.
أما على الطريقة اللبنانية، فقد أخذ رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد «يروح ويجيء مراراً وتكراراً إلى مكتب وزير العدل إبان وضع مسوَّدات الأسماء المقترحة ويعود منه محمَّلاً بملاحظات يأخذ بها ويعدِّل المسوَّدات على أساسها»، بحسب مصادر قضائية. وعلى الطريقة اللبنانية أيضاً، تسرّبت أسماء القضاة إلى الإعلام عند صدور التشكيلات من المجلس وتوقيعها من قبل وزير العدل، «وهم من القضاة المحظيين والنافذين والمحسوبين على المراجع السياسية التي طبخت التشكيلات» وفق المصادر. أما القضاة «الذين ليس لهم ظهر أو واسطة أو تواصل مع المرجعيات»، فقد انتظروا صدور النسخة الرسمية للتشكيلات، حالهم كحال بقية اللبنانيين.
احتفال جهات سياسية بالتشكيلات، وذمّ جهات أخرى لها، كانا كافيين لفضح الأيدي التي طبختها من خارج مجلس القضاء. النقمة عارمة بين كثير من القضاة على «عيوب تعتري التشكيلات وهي كافية للطعن فيها» وفق أحد القضاة.
تستعر التساؤلات حول ازدواجية المعايير التي اعتمدت في اختيار المناصب. هل هي الكفاءة أم الإنتاجية أم جودة الأحكام والدرجات والأقدمية (...)؟ وأين مراعاة مبدأ المداورة المناصبية والمناطقية والطائفية؟

يتوق بعض قضاة إلى إحياء العمل النقابي الخاص بهم وفكّ أسر مجلس القضاء


يكال الغضب ضد أعضاء المجلس على قدر النقمة من التفتيش القضائي الذي غطّ في سُبات خلال تقرير مصير التشكيلات، علماً بأنه «لو ظل صاحياً لكان منع صدورها وطعن فيها» يقول قاضٍ. في هذا الإطار، يلمح إلى أحد أعضاء المجلس الذي عيّن زوجته القاضية في منصب متقدم، في حين أن القانون يمنع القاضي من التصرف بأمر يخص أحد أقربائه حتى الدرجة الرابعة، فكيف إذا كانت من الدرجة الأولى؟! أما رئيس المجلس الذي حوّل أحد القضاة إلى المجلس التأديبي، فهو نفسه من أقرّ تعيينه في منصب متقدم في المحكمة العسكرية! ومثله، أحد الرؤساء الأول في جبل لبنان الذي نقل إلى منصب مماثل في بيروت وقاضية في حقها أكثر من ملف وشكوى عينت قاضية منفردة في بيروت! وتردد أن «رئيس هيئة التفتيش نفسه كان معترضاً على قاضٍ شغل منصباً حساساً في المحكمة العسكرية».
في الأيام الماضية، سرت شائعات عن نيات لدى البعض لتقديم طعن بالتشكيلات، فيما حكي عن استقالة قاضٍ احتجاجاً على «المجزرة التي أُلحقت بالقضاء المستقل والمنتج والعادل». حتى مساء أمس، لم تتحول تلك الشائعات إلى أفعال. لكن الفكرة التي يزداد انتشارها يوماً بعد يوم منذ صدور التشكيلات هي «إنشاء نادٍ للقضاة يقابل مجلس القضاء الأعلى الذي أثبت أنه أداة بيد السياسيين ويفرّط بهيبتهم وحقوقهم لأجل مصالح أعضائه الخاصة» يقول أحد القضاة.
خطوة تأسيس النادي لا تتعارض مع القانون. إذ إنها ليست الأولى من نوعها. يستعرض كتاب «حين تجمع القضاة» الذي أعده المحامي نزار صاغية، أن أول تجمع من هذا النوع في لبنان يعود إلى عام 1969 بمبادرة من القضاة نسيب طربيه ويوسف جبران وعبد الباسط غندور. طرحت المبادرة بعد أشهر من إنشاء نقابة القضاة في فرنسا، وحملت اسم «جمعية الدراسات القضائية» (حازت علماً وخبراً من وزارة الداخلية) وحددت إطار عملها بـ«العمل النقابي»، وأهدافها بـ«الوصول إلى القضاء المستقل واللاطائفي والعالم (المنفتح بالمعرفة) والذي يوحي بالثقة والمهاب والمنتج والعصري». في ظلال الجمعية، ألقى الإمام موسى الصدر في العام ذاته محاضرة بعنوان «القضاء الرسالة» تحدث فيها عن «استقلالية القضاء ودوره في المجتمع». بالنبرة ذاتها، ألقى طربيه بعد عامين محاضرة مدوّية حول «التشكيلات القضائية»، داعياً إلى عدم التدخل بالقضاء. النظام اللبناني الحالي لم يكن مختلفاً عن ذلك الحاكم عام 1971. أحيل طربيه بسبب محاضرته على التأديب وطردت الجمعية من الغرفتين اللتين منحتهما وزارة العدل لها في مبناها وساءت علاقتها بالوزارة حتى حوصرت وفقدت فعاليتها تدريجاً. بعد تسع سنوات، تحرك مجدداً عدد من القضاة وتأسست تجمعات قضائية بمبادرة مما سُمِّي «اللجنة القضائية». الأخيرة نظمت تحركها الأول عام 1980، والثاني عام 1982. حينذاك، دعت إلى جمعية عمومية واتخذت قرارات مطلبية بإجماع 356 قاضياً.
يتوق بعض قضاة اليوم إلى إحياء العمل النقابي الخاص بهم وفكّ أسر مجلس القضاء الذي يقيدهم بأغلاله. حتى إنه يمنعهم من التصريح لوسائل الإعلام أو المشاركة في أي نشاط قبل نيل الإذن المسبق، في حين أن بعض أعضائه «أداة مطواعة بيد مرجعياتهم الطائفية والسياسية».
يشير أحد القضاة المعنيين بطرح إنشاء النادي إلى أن من أهدافه «الاستقلالية ومنع التدخلات والمطالبة بالحقوق المعيشية وسلسلة الرتب والرواتب». لكن هل يبصر النادي النور، أم يواجه حرب إلغاء مسبقة من القضاة المحظيين؟ علماً بأن هناك 352 قاضياً كانوا قد وقعوا في وقت سابق على عريضة «استقلالية السلطة القضائية». لكن معظمهم انضووا تحت كنف الزعماء ليقتطعوا حصة من قالب الجبنة.