للمرّة الأولى في مجال العلوم الجينيّة، نجح العلماء في تعديل جينات خاطئة عادةً ما تسبّب خللاً ينتج منه مرض في الدم يسمّى «بيتا ثلاسيميا» Beta Thalassemia، وهو ناتج من وجود تشوّه في أحد الحروف المكوّنة للحمض النووي DNA.
وعلى الرغم من أن هذه التجارب لا تزال خاضعة لـ«جدل أخلاقي» حول حكمة إجرائها على الخلايا البشريّة داخل الأجسام الحيّة، إلّا أنّ القانون الصيني سمح بإجرائها في الأسابيع الأولى من حمل الأجنّة، فيما القوانين الأوروبيّة والأميركيّة ما زالت تعارض ذلك. إتاحة إجراء هذه الاختبارات، التي تعمل وفق مبدأ «التعديل القاعدي» base editing، أمام العلماء الصينيين، يمكن أن تشكّل في المستقبل فرصة فعّالة لعلاج أو تفادي الكثير من الأمراض الوراثيّة الجينيّة، وقد أطلق على عملية التعديل القاعدي اسم الجراحة الكيميائيّة من قبل مخترعها «دافيد لو» David Liu.
الجدير ذكره أنّ تعديل الكود الجيني ليس مسألة حديثة العهد في عالم الهندسة الجينيّة، إذ طوّر العلماء سابقاً تقنيّات عدّة لإجراء هذه التعديلات، أشهرها تقنيّة «كريسبر كاس 9» Crispr-Cas9. إلّا أنّ آلية العمل تختلف بين التقنيّة الجديدة وتقنيّة كريسبر، التي تستند إلى استعمال إنزيمات كيميائيّة خاصّة تستطيع أن تقوم بقطع أو قصّ نقاط معيّنة في الكود الجيني، وتحديداً عند الجينات الخاطئة، ثمّ يقوم الجسم بعدها تلقائياً بإصلاح الفراغات الناشئة، ويملأها بالحمض النووي المناسب والصحيح. لكن هذه التقنية الناجحة في الكثير من الحالات، فشلت في معالجة التشوّهات المسبّبة للثلاسيميا في الأجنّة البشريّة، وذلك خلال اختبارات عدّة سابقة أجريت في عدد من الجامعات من ضمنها جامعة غوانغزو في الصين. لذلك صوّب العلماء دراساتهم على التقنية الأخرى المسماة «التعديل القاعدي».

كيف يعمل التعديل القاعدي؟

خلال هذه التجربة، استنسخ فريق الباحثين مجموعة من الأجنّة من خلال خلايا جلديّة أخذوها من مرضى مصابين أصلاً بالثلاسيميا، وزرعوها في بويضات أُفرغَت من نواتها. وبنتيجة هذه العمليّة تطوّرت البويضات إلى أجنّة صغيرة ناشئة تحمل في طيّاتها تشوّه الثلاسيميا.

يمكن تقنيةَ التعديل القاعدي أن تفتح آفاقاً لعلاج الثلاسيميا في مراحل ما قبل الولادة


يستعمل التعديل القاعدي أنزيمات مشابهة لتلك التي تستعمل في تقنية كريسبر، لكن بدلاً من قطع الشريطين المشكّلين للحمض النووي الحلزوني في مكان الخطأ الجيني، تستبدل هذه الأنزيمات بأحد الأحرف G, T, A, C التي يتشكّل منها الكود الجيني حرفاً آخر، وعادة ما يُستبدَل G بـ A، لعكس التشوّه المسبّب للثلاسيميا الذي يقوم بالتبديل المعاكس.
وقد أشارت الدراسة التي نشرها الفريق في مجلة «البروتين والخلايا» المتخصّصة بهذا الفرع من البحوث إلى تحقيق نجاح كبير، لكن جزئي، في النتائج التي حصدها هذا الفريق.
مشاكل قائمة
يحمل الحمض النووي البشري نسختين من كلّ جين، ويكفي أن تكون إحداهما مشوّهة كي تسبّب تشوهاً جينياً ينتج أمراضاً معيّنة. ما حصل خلال التجارب الأخيرة للفريق الصيني هو أن عملية التعديل القاعدي نجحت غالباً في ترميم نسخة واحدة من الجينات الخاطئة، فيما ظلّت النسخة الأخرى على حالها، ما أدى إلى نشوء خلايا عادية وأخرى مشوّهة عند الجنين الواحد.
وعلى رغم أن هذه التقنية نجحت في بضع حالات، إلّا أنّ نجاحها كان جزئيّاً في معظم الحالات. لذلك لا يمكن تصنيف الاختبار ناجحاً بالمقاييس الإنسانيّة المطلوبة، ولو أنه نجح علميّاً على الأقل في إحداث التغييرات المطلوبة في الجينات المشوّهة. إذ لا يزال أمام العلماء طريق ليس بطويل لإتمام العمليّة وضمان نجاحها الكامل مع نسختي الجين المشوّه في الوقت نفسه.
ووفق هذا المعيار، يعتبر الخرق العلمي الحاصل واعداً بعد سنوات طويلة من الفشل مع تشوّهات الثلاسيميا الجينيّة، ومن المتوقّع أن يفتح آفاقاً جديدة لعلاج هذا المرض من جذوره، وفي مراحل ما قبل الولادة حتى، كذلك فإنّه سيتيح معالجة العديد من الأمراض الجينيّة المشابهة وفق الآليّة نفسها، خصوصاً في الدول التي تسمح باستعمال تقنيّات التعديل الجيني لعلاج الأمراض ذات الصلة.

المستقبل يكمن في الحاضر

يعرف الفريق الصيني أنّ هذه العمليّة ما زالت غير صالحة للتطبيق مباشرةً على البشر، خصوصاً أنّ فرص نجاحها بالكامل لم تتأكد بعد، ولكونها تسبّب تشوّهات أخرى أحياناً، إلّا أن مجرّد نجاح تقنية التعديل القاعدي وتخطّيها للنتائج المحقّقة سابقاً في علوم الهندسة الجينيّة، يعني أنّ الباب فتح، وأنّها مسألة وقت فقط، حتى تقتحم هذه التقنيّة مسرح الطبّ الجيني لمعالجة الأمراض الوراثيّة المتناقلة من جيل إلى آخر.
لطالما كانت فكرة التعديل الجيني المباشر في الأجنّة حلماً من المستقبل، إلّا أنّها صارت اليوم جزءاً من الحاضر. وقد وصف دارين غريفين، أحد أشهر العلماء الجينيّين في جامعة كنت في بريطانيا هذا البحث بأنّه «خرق تقني كبير ينقل المستقبل إلى الحاضر» على الرغم من أنّ الكثير من البحوث المكلفة يجب أن تستكمل حتى الوصول إلى نسبة نجاح كفوءة وموثوقة.
وفيما يتقدّم العلم بنحو متسارع على أصعدة عدّة، ومنها الهندسة الجينيّة، تطفو على السطح مجدّداً الأسئلة المرتبطة بأخلاقيّات العلوم، ومدى خرق بعض مجالاتها لحدود الأخلاق المتعارف عليها والمرتبطة بعقائد اجتماعيّة ودينيّة، خصوصاً أنّ هذه الهندسات يمكنها خلق أجيال «غب الطلب» تجري هندسة مواصفاتها قبل خروجها إلى الحياة، ولهذه الأسئلة المشروعة مجالات نقاش لا تنتهي.