يصعب الكلام عن «قضيّة رقم 23» بمعزل عن الخناقة التي أثيرت حول صاحبه زياد دويري. بالدرجة الأولى بسبب صخب المعركة التي ما زال غبارها يتصاعد. لقد أفرزت للمرّة الأولى نواة ما يمكن أن نسمّيه «لوبي التطبيع» في لبنان. لوبي، غير معلن طبعاً، يختبئ غالباً خلف خطاب «الحريّة». وتلك النواة مجبولة بعصبيات وأجندات ومصالح وأنجي_أوزات مختلفة، مغلّفة بكتلة كبيرة، غير متجانسة، تدافع عن حق «الفنان» في ممارسة الابداع «بمعزل عن السياسة»، أي التعامل مع اسرائيل كدولة جوار، أو أستديو تصوير محايد…
أما الذين اعتبروا أننا، بنقاشنا الاستباقي، عكرنا الأجواء على عمل فنّي بريء تجشّم المشقات للقاء جمهوره، ففاتهم أن عودة السينمائي المطبّع إلى الساحة الثقافيّة، في بلد يحترم نفسه، كانت يفترض أن تكون مشروطة بتصفية حساب (ولو رمزيّة) مع الماضي الآثم. لكن النظام السياسي البائس، الملزَم بحماية مختلف أشكال المتعاونين، أحاط «فنّاننا العالمي» بحصانة منعت النقاش من الذهاب إلى نهاياته. علماً أن هذا النقاش هو الشرط الأساسي لأي «مصالحة» حقيقية، إذا صدقنا أن فيلم دويري الجديد عن المصالحة. أما الذين عابوا علينا أننا «روّجنا» للفيلم عبر مساءلة صاحبه، فيجهلون ربّما أن النقاش الفكري لا يقوم على حسابات السوق، بل على مبادئ وضرورات أخلاقيّة. وهنيئاً للفيلم إذا أحبّه الجمهور، وهو يقوم للأمانة على الحضور الممتاز لحفنة من الممثلات والممثلين الذين يستحقون التحيّة (عادل كرم، كامل الباشا، ريتا حايك، كميل سلامة، ديامان أبو عبود، طلال الجردي، جوليا قصار، رفعت طربيه، كريستين شويري…). بل هنيئاً له جائزة «أوسكار الفيلم الأجنبي» إذا كان سيفوز به، رغم هزاله الفنّي، نكاية بـ«محور الشر».
لكن هناك سبب آخر، جوهري، يجعل من الصعب تناول فيلم دويري الجديد، بمعزل عن الجدل المثار حول المخرج وخطابه وممارساته. يوجد رابط عضوي، ، بين الفيلم وصاحبه. خفّة دويري وعدم نضجه متجسّدان في السذاجة الوعظيّة والأسلوبيّة للعمل، وهي تثقل كاهله وتأخذنا إلى ذروات هاذية. (مشهد استدعاء رئيس الجمهورية للفلسطيني والقواتي وفشله في حل النزاع الذي سيشعل البلد، مذهل بهبله). أما السردية التي يتلطّى خلفها دويري (رضعت حب فلسطين في البيت مع حليب أمّي ثم ابتعدت كي أكتشف الآخر)، فتأخذه من «الاسرائيلي الطيب» الذي «اكتشفه» في تل أبيب 2010 إلى «المسيحي» المذعور الذي سيكتشفه في فسّوح 2016. دويري ذهب إلى إسرائيل وأنسن العدو، ولفّ القضيّة الفلسطينيّة بشراشف «نظيفة»، في فيلمه السابق،. وفي «قضية رقم 23» يمجّد «بشير» ويلبس قفازين أبيضين ليقدم صورة سلبية للفلسطيني. بشير الجميّل الذي تعامل مثل دويري مع إسرائيل، هو البطل المضمر لهذا الفيلم، مع وريثه سمير جعجع طبعاً. والمقاربة الملتبسة للشعب الفلسطيني في «الصدمة» («الشعب الاسرائيلي» ضحيّة بقدر ما أنتم ضحايا)، تجد امتدادها في فيلمه الجديد الذي كتبه مع جويل توما. في الظاهر يحاول أن «يفهم» الفلسطيني ويدافع عنه، بل يخصّه بنهاية سعيدة لن نفصح عنها هنا. فيما الخطاب الضمني الرابض الذي يعشش في اللاوعي، ليس إلا استنساخاً للخطاب الانعزالي اللبناني، إذ يربط بين صورة «الفلسطيني» والمجزرة. من كل مجازر الحرب الاهليّة أخرج لنا دويري «الدامور» في الربع ساعة الأخيرة وبنى عليها الفرز الحقيقي بين الطيّب والشرير (لو اختار مجزرة إهدن مثلاً لتغيرت الوجهة الدرامية وصار القاتل بشير وسمير، لو أخذ مجازر صبرا وشاتيلا لصار بطله «طوني» هو ذابح العزّل مع جماعة حبيقة). البنية الدرامية للفيلم تجعل المتفرّج يخرج مسكوناً بصور مجزرة الدامور. لا رابط بين مرتكبيها، و «ياسر» الفلسطيني الآتي من الكويت الى مخيّم مار إلياس. تلك هي الزعبرة، والتلاعب السياسي لأبلسة القضية الفلسطينيّة. لن يبقى في ذهننا إلا كلمات محامي عادل كرم «القواتي»: المسيحيون هم الضحيّة التي لا يحق لها أن تصرخ آلامها، فيما الفلسطيني يشكو معاناته ليل نهار ثم… يذبح «المسيحيين» في وقت فراغه. إنّها فلسفة الفيلم التي لا تبتعد كثيراً عن أفكار منتجه أنطون صحناوي، ولا تصدم طبعاً مشاعر منتجته جولي غاييه.
نتذكّر فجأة كل ارتكابات الرقابة (المرفوضة أساساً) بحق أفلام رين متري وسيمون الهبر ودانيال عربيد وغيرهم، بحجّة «اثارة النعرات الأهلية». فيما أجيز فيلم دويري، وهو تجسيد لـ«الفتنة الأهلية». لكنّه فيلم ولد وفي فمه ملعقة من فضّة. منتجه أمّن له كل شيء: اجازة العرض، والمشاركة في البندقيّة، وجائزة أفضل ممثل، والترشح للأوسكار بهمّة وزير الثقافة الدكتور غطاس خوري. بل أن «حزقيال» صحناوي، شحن الوزير في طائرته الخاصة، كهديّة لطفله المعجزة. مهمّة معاليه كانت أن يغسل دويري من «خطاياه»، ويمنحه بركات الجمهوريّة، وذلك من قدس أقداس السينما وعلى مرأى من الكاميرات… ثم أقفل الوزير عائداً على متن الطائرة نفسها، من دون أن يكترث للأفلام اللبنانية الأخرى المشاركة في المهرجان!
الصبي الشقي الذي أدهشنا ذات يوم بعيد بباكورته «بيروت الغربيّة»، يواصل ارتقاء سلّم المجد. لكن فيلمه الجديد الذي تدور مشاهده الحاسمة في «قاعة محكمة» (هذا الفخ السينمائي القاتل)، مخيّب قياساً إلى الاعمال السابقة. ويشكو من ركاكة تلفزيونيّة أحياناً. يبالغ دويري في اعطاء الدروس، ونرى الحبال الغليظة التي يحرّك بها أحداثه، وقلم الحبر الصيني الذي يكتب فيه حواراته الوعظيّة لخدمة أطروحة أخلاقيّة. ما يجعل فضل الممثلين مضاعفاً في تقمّص الشخصيات وعيش المواقف الذهنيّة. زياد دويري لم يتجاوز نزق المراهقة، ولم ينضج تماماً على المستوى الإبداعي، لكن طموحه للنجاح والعالميّة، أفضى إلى خيارات سياسيّة مقلقة وخطيرة. ما يفسّر هذا الفصام بين ما يدعيه، وما يصوّره حقّاً. أكاذيب دويري حين يشرح أعماله ويبرّر ممارساته، توازيها زعبراته الفنية واختزالاته الدراميّة. في «بيروت الغربيّة» يدفعه جموحه الوطني الى مقاطعة النشيد الوطني الفرنسي في الليسيه الفرنسي لتأدية النشيد الوطني اللبناني. لكن منذ متى ينشدون «المارسييز» قبل الصفوف في الليسيه؟ في «الصدمة» استدرجه كاتب الرواية ياسمينا خضرا إلى تزويرات صغيرة تنسف القصة: «الانتحاريّة» هي مسيحيّة من الطبقة الوسطى ينصحها الكاهن باختيار طريق الفداء! وها هو في فيلمه الجديد ينقل القصر الجمهوري من بعبدا، إلى… «قصر الصنوبر»، مقر السفير الفرنسي في بيروت. في هذا التماهي الملتبس يكمن ربّما «سرّ» الظاهرة. زياد دويري مرجعيّته الحقيقية عند «الخواجه»… هنا مستقبله، وهنا مصدر تمويله، وآفاق نجاحه. مهما كلفه ذلك، الوقوع في الاسفاف الفنّي، والابتعاد عن «فلسطين» التي «رضعها في بيته». يا ضيعان الموهبة، يا ضيعان الحليب!