بيونغ يانغ | الخامسة فجراً في بيونغ يانغ. موسيقى هادئة تعلو في سماء المدينة من مكبّرات للصوت، أنوار المنازل الخافتة تُضاء تباعاً، تنطلق أولى الدراجات الهوائية على الرصيف المعتم، تصمت الموسيقى بعد ستّ دقائق ويصل القطار في اللحظة ذاتها إلى المحطّة. المشهد نفسه، بالأوقات ذاتها، يتكرر كلّ يوم، حتى تمتلئ الشوارع بالناس بعد حوالى الساعة... صباح جديد يحلّ على عاصمة جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، العاملة المقاومة.
لمَ أنتِ في بيونغ يانغ أصلاً؟ سؤال طرح عليّ باستمرار خلال الزيارة التي دامت خمسة أيام في العاصمة الكورية، وقبل الوصول إليها حتى.
«لماذا تريدين الذهاب الى كوريا الشمالية؟ هل تعلمين أنه لا يمكنك التكلّم مع أحد في الشارع هناك؟ لن تكتبي مقالاً سياسياً صحّ؟» سألني الأمين العام لاتحاد كرة القدم جهاد الشحف بعدما استدعاني إلى مركز الاتحاد قبل أسابيع من السفر، منبّهاً من الظروف الصعبة التي ستحيط بالرحلة خاتماً اللقاء بتحذير «لطيف»: «بعد سفرتك هذه لن تحصلي على أية تأشيرة دخول إلى أي بلد آخر»!

التخوّف ذاته أبداه زملاء المهنة أيضاً، «انتبهي لنفسك جيداً ولا داعي للقيام ببطولات»، «سيأخذون منك دفاترك وأقلامك والكاميرا والهاتف» قال لي بعض الزملاء الصحافيون والأصدقاء بكلّ حرص واهتمام، وكنت أطمئنهم بأنني «سأكون في أيدٍ أمينة». لا أدري، بصراحة، من أين جاء هذا اليقين.
الرحلة متعبة والسفر طويل، نصل إلى بكين ومنها إلى بيونغ يانغ عبر الخطوط الجوّية الكورية. في الطائرة ركّاب كوريون وصينيون ونيوزيلنديون إضافة الى بعثة المنتخب اللبناني. التعرّف إلى المواطنين الكوريين بين الركّاب كان سهلاً، فمعظمهم يضعون زرّاً أحمر عليه صورة مؤسسَي الجمهورية، الرئيسين السابقين كيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل. المضيفات الأنيقات يبتسمن لكن لا شيء يخفف من التوتر والحماسة والأدرينالين مع الدخول إلى مطار بيونغ يانغ الخالي من أي ركّاب آخرين. التفتيش دقيق، آلي ويدوي، رجال الأمن وسيّداته يدققن في الوجوه، يسألني أحد عناصر الأمن عند شبّاك الدخول عن رقم الشارع في عنواني السكني في لبنان، فأجيبه «لا يوجد»، يبتسم ويختم لي آذناً بالعبور. لم يفتّش أحد حقيبتي الكبيرة، ولم يفتح رجال الأمن حقيبة اليد بل طلبوا بلطف شديد أن أسلّمهم الهاتف والكاميرا. بعد ثوان، أعادوهما إليّ من دون أي سؤال أو طلب أو شرط، علماً أنني صرّحت في طلب الفيزا وورقة الدخول عن مهنتي ونيّتي دخول البلاد كصحافية. دخلتُ الأراضي الكورية من دون أيّ تحقيق ولم يُصادَر أيّ من أغراضي. يزول التوتر تدريجياً وتساهم مناظر الحقول الخضراء على طول الطريق المؤدّي الى المدينة بتهدئة الأذهان والنفوس. دخلنا بيونغ يانغ وقت الغروب. عمّال وموظفون عائدون من أشغالهم، سيراً على الأقدام وعلى دراجات هوائية، شوارع شبه خالية من السيارات واسعة معبّدة نظيفة وشجر كثير على جانبي الطريق. تستقبل بيونغ يانغ زائريها بسكينة مدهشة. هدوء حتى داخل بهو الفندق الضخم، لم يعكّره سوى ضجيج البعثة اللبنانية. يعلو صراخ بعض اللاعبين اللبنانيين بوجه عاملات الاستقبال المرحّبات المبتسمات، احتجاجاً على عدم توفّر «واي فاي» في الفندق. خدمة الانترنت موجودة في الفندق لكن بطريقة سلكية يصلها من يريد بجهاز كومبيوتره المحمول. رغم ثقل الحضور اللبناني، حافظ الموظفون على ابتسامات دائمة رقيقة وخدمة سريعة واستجابة حاضرة لكلّ المطالب. عاملات التنظيفات يعتذرن بخجل مربك لدى دخولهنّ الغرف ليؤدّين أعمالهنّ، يلاحظن أنني الفتاة الوحيدة ضمن نزلاء البعثة اللبنانية، فيستبدلن في اليوم التالي ملاءات السرير الزرقاء بأخرى مطرّزة بورود زهرية.
الكوريون لا يصطنعون اللطف بل يصنعونه كلّ يوم، في تحيّاتهم الباسمة في المصاعد وفي المحلّ التجاري وفي المطعم داخل الفندق... أما في الشارع فينظر إليك المارّة مباشرة في العيون بقليل من الاستغراب وكثير من الجدّية.
حركة المارّة لا تخفّ حتى حلول الليل، الكلّ يسير بخطوات سريعة، يقطعون مسافات بعيدة سيراً على الأقدام إذ لا أحد يملك سيارة خاصة ووسائل النقل العمومية قليلة نسبة لعدد سكّان المدينة، لذلك تبقى الباصات والترامواي في حالة اكتظاظ. النساء كما الرجال يشاركن بأعمال تنظيف شوارع المدينة وجزّ عشبها وترتيب حدائق مستديراتها ورصف أرصفتها. النظافة لافتة في الشوارع الأساسية والفرعية وحتى في الأنفاق السفلية للطريق.
المدينة الراقدة بين نهرين جميلة وهادئة وفيها حركة بشرية دائمة خلال النهار، الجوّ ملوّث بسبب دخان المصانع القريبة لكن كثرة الشجر لا تشعرك بثقل الهواء. أكثر ما يلفت النظر بداية هو تلك المباني الملوّنة بالأخضر والزهري والأصفر والأزرق أشبه بقطع «ليغو» ضخمة، شعور طفولي جميل في عاصمة نووية. الأرصفة الواسعة تتضمن خطّ دراجات هوائية لا يهدأ، عدد قليل جدّاً من المارّة يتكلّمون في هواتفهم الخلوية ويحدث ذلك بالأغلب في محيط محطّة القطار. هكذا يستعيد زائر بيونغ يانغ متعة رؤية وجوه المارّة وملامحهم فالرؤوس في وضعيتها الطبيعية مرفوعة مكشوفة وليست منحنية ملتصقة بالهواتف الخلوية. ملصقات ثورية وشعارات وطنية تزيّن بعض الأعمدة والجدران، صور الأزهار تنتشر أيضاً في المدينة وعلى المنتجات المصنّعة محلياً. زهرة المانيوليا هي الرمز الوطني للبلاد، وفي المدينة حدائق عامة تمتلئ بها، زهرة الأوركيد الوردية اللون رمز لمؤسس الدولة كيم إيل سونغ، والحمراء لكيم جونغ إيل والد الرئيس الحالي.
في الأحياء السكنية، حدائق عامّة وملاعب للأطفال وأخرى رياضية، السوفيات مرّوا من هنا. في فترة بعد الظهر تمتلئ تلك الملاعب بفتيان وشباب يمارسون رياضاتهم على اختلافها. تفترش بعض العائلات الحدائق الخضراء أيضاً وتستريح من تعب نهار منتج.
هناك يقع مبنى مكتبة الشعب الضخمة، وهنا متحف الفنون، والمسرح الوطني، وقاعة السينما، ومركز للاستجمام وتصفيف الشعر والاعتناء بالجسم... هنا فرقة موسيقية تتمرّن في الهواء الطلق على العزف ونساء في الزي التقليدي الملوّن الجميل يتمرنّ لاحتفالات اليوم الوطني القريب. الرجال أيضاً يحملون زهوراً ملوّنة وردية فاقعة ويتحضّرون لإحياء ذكرى تأسيس الدولة في ٩ أيلول.
سكون المدينة ساحر لكنه قد يبعث أحياناً شعوراً بالحزن والوجوم. الناس هادئون ومتعبون أيضاً. تعب يبدو على الوجوه وفي الأجساد النحيلة. تعب العمل الشاقّ في بلد يرزح تحت عقوبات اقتصادية هي الأقسى في العالم وعزلة سياسية منذ أكثر من عشر سنوات. في الواقع، لم يلتقط الكوريون أنفاسهم بعد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية! إذ بعد التخلّص من الاحتلال الياباني عام ١٩٤٥، جاءت الحرب الكورية بين جزئيها الشمالي والجنوبي بعد خمس سنوات فقط، دماء كثيرة وانقسامات داخل شعب واحد على أرض لم تعد موحّدة.

لم يلتقط
الكوريون أنفاسهم بعد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية

دمّر الأميركيون بيونغ يانغ بالكامل وأعاد أبناؤها إعمارها بأيديهم، لكن الهدنة التي أنهت الحرب الكورية عام ١٩٥٣ لم تنه مآسي الكوريين، فما لبث البلد أن بدأ بالنهوض عمرانياً وصناعياً وزراعياً حتى ضربته فياضانات تسببت بمجاعة كبيرة وتدمير للبنى التحتية والأراضي بين عامي ١٩٩٥ و١٩٩٨ ثم فياضانات جديدة خلال العام الماضي. رغم ذلك كلّه لا يتكلّم كثيرون اليوم عمّا عاناه الشعب الكوري وما يزال حتى اللحظة، وكلّ ما يهمّ صانعي البروباغندا الغربية ـ الأميركية ومردّدي أفكارها هو تقديم صورة تهكّمية مضخّمة وبعيدة عن الواقع في أغلب الأحيان عن النظام الأكثر راديكالية في معاداة الولايات المتحدة الأميركية قولاً وفعلاً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ماذا عن المواطنين ونهضة البلاد والتحديات التي يواجهونها يومياً بسبب العقوبات؟ ماذا عن إنجازاتهم في الرياضة والموسيقى رغم كل شيء؟ لا ذكر لذلك في الإعلام اليومي، فهذا لا يخدم الصورة الكاريكاتورية التي يسعى الى تعميمها.
خلال إقامتي في العاصمة الكورية، التقطتُ ١٦٦ صورة في الكاميرا، طلب المرافق الكوري الذي يهتمّ بالبعثة اللبنانية أن يرى بعضاً منها، وقام بمحو صورتين فقط مع شرح للسبب: إحداهما أُلغيت لأن إطارها مائل وذلك أثّر على شكل صورة وجه الرئيس الكوري الراحل والأخرى لأنها أظهرت أحد الشعارات المكتوبة على الجدران بطريقة مبتورة ما انتقص من معناه. الشعار، بالمناسبة، يقول «كلّما اشتدّت الأزمات... تقدّمنا بخط مستقيم».