متضامنون، بلا حدود، مع انتفاضة التيار الوطني الحر، ضد الانتداب السعودي على لبنان، وما ينجم عنه من فساد وسلطوية؛ غير أن هذا النظام اللبناني مستعصٍ على التغيير والإصلاح؛ إنه نتاج معادلة دولية ــ إقليمية لا تسمح باستقلال الجمهورية التي يمكنها، بالاستقلال الفعلي، أن تتحوّل إلى دولة ديموقراطية وكفوءة ومبادرة. داخلياً، هناك الاستعصاء ــ المركّب على الاستعصاء الخارجي، الناجم عن المحاصصة التي هي، ككل محاصصة سياسية، مستحيلة؛ ففي النهاية، تؤول ديناميات السلطة، أي سلطة، إلى قوة حاكمة، من دونها ينهار النظام.
تفتح هذه المعادلة، الباب الدوّار لحروب الاستئثار بالحكم بين «الشركاء»؛ قبل الـ75، كان الحكم بين يدي النخب المارونية، وكانت السلطات مركّزة في صلاحيات الرئيس الماروني. ولا تعدو الحكاية المريرة للحرب الأهلية اللبنانية، أن تكون انتفاضة سنيّة، عزّزتها المنظمات الفلسطينية، واليسار الانتهازي، لنقل السلطة إلى النخب السنية، وتحويل الصلاحيات من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء. ولعل هذا هو ملخص اتفاق الطائف الذي أقصى المكوّن المسيحي، وأجرى تسوية، رعتها وضبطتها دمشق، مع الشيعة، تكفل لهم حق المقاومة التي تحولت إلى بنية اقتصادية ــ اجتماعية ــ ثقافية، شبه مستقلة، وقفزت، في سنوات الحرب السورية، خارج الحدود، وخارج المعادلة، لتتحوّل قوة إقليمية رئيسية في الهلال الخصيب. وفي الواقع، كان هذا هو المخرج السلمي الوحيد من استعصاء العدالة في النظام اللبناني.
لم تبرز للمسيحيين قوة سياسية مستقلة، طوال خمسة عشر عاماً من نهاية الحرب الأهلية، سنة 90، حتى نهض التيار الوطني الحر، بالمهمة، وفهم أن التحالف مع حزب الله هو ضرورة استراتيجية. وهي كذلك، ولكن للخروج من المعادلة اللبنانية، وليس لتعديلها، يتمتع حزب الله بفائض قوة استثنائي، كما ظهر، جلياً، بقدرته على أن يكون «حيث يجب أن يكون»، في الإقليم كله، من أقصاه إلى أقصاه، ولكن ليس في بلدة عرسال، ولا في قريطم! فهنا، تلغي المعادلة الداخلية، مفاعيل فائض القوة، وتحوّلها صداماً مذهبياً ممنوعاً في استراتيجية المقاومة.
مشكلة التيار الوطني الحر، أنه لا يزال يعيش في ما قبل 2011. لم يدرك الحقيقة الاستراتيجية المستجدة المتمثلة في أن حدود الكيانات المشرقية سقطت، ولم يعد ممكناً إحياؤها. الكيانات المشرقية انتهت، كادوك، ولم يعد ممكناً إحياؤها أو إصلاحها؛ والخيار بات واضحاً بين مصيرين: فإما كانتونات منقسمة على نفسها، ومتقاتلة في ما بينها، وإما صيغة اتحادية للمشرق كله، يكفل لكل المكونات الدينية والمذهبية والإتنية والقومية، حقوقها الثقافية وذاتيتها وأمنها، في سياق التعاضد التنموي والديموقراطية الاجتماعية.
كما لبنان ــ المركّب، بنيوياً، على استحالة الإصلاح السياسي ــ كذلك الأردن؛ فالمعادلة الدولية ــ الإقليمية، تمنع تغيير النظام، حفاظاً على مصالح واندماج ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني متفاعلين مع ما يقرب من ثلاثة ملايين منهم، في الضفة الغربية. ومن جهة أخرى، الإصلاح الديموقراطي للنظام الأردني ممنوع أيضاً، لأنه، بحكم التركيبة الديموغرافية والاقتصادية، سيهمّش الشرق أردنيين الذين يشكّلون عماد الجيش وعصبية الدولة. وفي إطار هذه المعادلة ــ التي تعبّر عن ضرورة إسرائيلية ــ تتمكن أقلية متحالفة من البيروقراطية والكمبرادور، من الاستئثار بالسلطة، وإدامة ديناميات النهب والفساد واستخدام البلد في مشاريع سياسية وأمنية، معروضة للبيع.
الكيان الفلسطيني وضعه كارثي بلا أمل؛ فهو منشق إلى كيانين تتوطد خصوصيتهما السياسية والاجتماعية والثقافية؛ الكيان الضفّاوي والكيان الغزّي. إنهما، في الحقيقة، كيانان، وليسا مجرد حكومتين! وكل منهما منشق على نفسه؛ مراكز القوى في «فتح» تتصارع في ما بينها، متوافقة على التنسيق مع إسرائيل، بينما «حماس» التي ألحقت نفسها بالمعسكر الإخواني القطري التركي، خسرت حضورها كبديل وطني جامع، وتحولت إلى قوة سلطوية مهددة بالمتطرفين التكفيريين، ومحاصرة، ويائسة، بحيث لم يعد، أمامها، من بديل سوى التفاهم على هدنة مديدة مع إسرائيل.
صيغة المحاصصة الطائفية ــ الإتنية في العراق، المنسوخة عن الصيغة اللبنانية، لم تمش يوماً واحداً في هذه الدولة المركزية التي تتنافى وحدتها وقوتها وحضورها، مع مصالح القوى الغربية والإقليمية، وتعجز، وستظل عاجزة، عن استعادة كيانها. وهي تدور في وضع مأساوي يائس؛ فلا الإسلام السياسي الشيعي، المتحكم في الوسط والجنوب، قادر على بناء دولة وطنية، ولا قوى الإسلام، الرجعي والتكفيري، المتحكم في المحافظات السنية، قادر على كسب الحرب أو الانفصال أو بناء دولة، ولا هو مسموح لكردستان العراق، الانتقال من الاستقلال الفعلي إلى استقلال قانوني قد يؤمن خروج الكرد من معادلة الحرب الأهلية المستمرة.
سوريا، التي لا تزال تملك دولة وطنية مستقلة، وجيشاً وطنياً، وإرادة وحدة، تخضع لمؤثرات ومفاعيل حرب امبريالية رجعية عثمانية تكفيرية متصاعدة منذ أكثر من أربع سنوات. وعلى رغم صمود الدولة، واستمرار وجود وحضور كتلة اجتماعية وطنية صلبة؛ فالواقع المرير يقول إن أقساماً من المجتمع السوري قد انشقت وتشققت واتخذت التنظيمات الإرهابية، ممثلاً سياسياً؛ حين تنتصر سوريا ــ وهذا ليس موضع شك لدينا ــ سوف تواجه الجمهورية السورية، عملية صعبة معقدة من إعادة البناء المجتمعي، يستوعب المتغيرات الديموغرافية والانشقاقات المذهبية والاجتماعية، قد لا يكون ممكناً من دون الانفتاح الوحدوي على المدى العراقي.
إذا كنّا نريد كسر الصهاينة والتكفيريين؛ إذا كنا نريد الاستقلال والديموقراطية الاجتماعية، إذا كنا نريد السلم والعيش الكريم والازدهار التنموي والثقافي؛ فليس أمامنا سوى خوض المعركة، صوب الاتحاد المشرقي، المستقل عن الإمبريالية والهيمنة الخليجية والعثمانية، والقادر على إقامة علاقات ندية مع الحلفاء الإيرانيين.
سوى ذلك، لا طريق للمكونات الاجتماعية والدينية والمذهبية والاتنية، سوى طريق الموت في حروب أهلية لا تنتهي؛ في المشرق لن يتغلب السنة على الشيعة، أو العكس، في العدد أو القوة أو الحضور، وسيكون المسيحيون كتلة وازنة ذات فعالية سياسية وثقافية، وسيكون للعلمانيين فضاؤهم، في صيغة قومية علمانية، تعترف بحقوق الجميع، بمن فيهم الكرد والإتنيات الأخرى، وتستوعب اليهود من دون إسرائيل.
قد يبدو صعباً، وربما حالماً؛ ولكنه البديل الوحيد للانتحار الذاتي الشامل.