لن ينسى اللبنانيون التاريخ المشؤوم يوم ٢ آب من عام ٢٠١٤. آنذاك أوقفت استخبارات الجيش عماد جمعة المشهور بـ«أبو أحمد جمعة»، قائد لواء «فجر الإسلام» الذي بايع تنظيم «الدولة الإسلامية» قبل يوم واحد من توقيفه. ورغم معلومات التقارير الأمنية عن مخطط مسبق لدى هذه التنظيمات لمهاجمة عرسال واحتلالها، إلا أنّ توقيف جمعة كان الشرارة التي أطلقت ما عُرف بـ«غزوة عرسال». اجتاح مئات المسلحين البلدة لمهاجمة مراكز الجيش وحواجزه وفصيلة قوى الأمن الداخلي في عرسال.
كانت الأوامر تقضي بقتل عسكريين وأسر العدد الأكبر منهم لمبادلتهم لإطلاق سراح جمعة. أما حصيلة العسكريين المخطوفين، فقد بلغت ٤٣ عسكرياً (من الجيش وقوى الأمن الداخلي).
طوال الأشهر التي تلت «غزوة عرسال الثانية»، تمكنت مديرية مخابرات الجيش والأمن العام وقوى الأمن الداخلي من توقيف مئات المشتبه فيهم الذين تبيّن أنّ بعضهم على علاقة مباشرة بـ«الغزوة» وبجريمة خطف العسكريين. وقد ساعدت إفادات الموقوفين في رسم مسار المعركة بدقائقه منذ لحظة الاقتحام، وصولاً إلى أسر العسكريين وسوقهم خارج عرسال.
أبرز الاعترافات كانت للموقوف عبد الرحمن ظهير البازرباشي الملقب بـ«حفيد البغدادي» و«أبو مصعب». هذا القاتل الذي نشر خبر ذبح العسكريين علي السيد وعباس مدلج وصورهما على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، أوقفته مديرية المخابرات على حاجز اللبوة ــ عرسال أثناء محاولته المغادرة بتاريخ ١٥ أيار من عام ٢٠١٥، لكون البازرباشي متورطاً بعدة أحداث ومعارك وجرائم إطلاق نار على عسكريين ومدنيين في طرابلس، والمشاركة في أحداث جبل محسن ــ باب التبانة، قبل أن يتبين أنه شارك في معركة عرسال بتاريخ ٢ آب من عام ٢٠١٤.

معظم خاطفي العسكريين وذبّاحيهم موجودون في سجن رومية

اعترف الموقوف البازرباشي بأنّه منذ صغره كان يؤيد تنظيم القاعدة ويتابع جميع إصداراته. ومع ظهور «الدولة الإسلامية» اعتنق نهجها. وذكر أنّه بدأ يتابع نشاط التنظيم وإصداراته وتقدمه الميداني في سوريا والعراق، قبل أن ينتقل إلى الرقة، ومنها إلى العراق، ليرتبط بالقوات الخاصة التابعة للمتحدث السابق باسم التنظيم و«أمير عاصمة الخلافة، أبو محمد العدناني».
اعترف البازرباشي بأنّ جندياً في الجيش، مركز خدمته في عرسال أو اللبوة، أوصله مع كل من بلال العتر وعبدالله الجغبير وعمر ميقاتي إلى عرسال للالتحاق بتنظيم «الدولة الإسلامية»، بعدما تواصلوا مع مسؤول الساحة اللبنانية «أبو أيوب العراقي». وأفاد الموقوف بأن العسكري المذكور نقلهم إلى مسجد «أبو طاقية»، كاشفاً أنّ بلال ميقاتي سبقهم قبل يوم واحد. ومن هناك انتقلوا برفقة السوري باسل شرف الدين المعروف بـ«أبو أنس السِّحلي» إلى الجرود. يروي البازرباشي أن أحداث عرسال اندلعت في اليوم الأول لوصوله إلى المقر في الرهوة. يذكر يومها أنّ السِّحلي حضر إلى المقر ليُخبرهم بتوقيف قائد لواء «فجر الإسلام» أبو أحمد جمعة، ناقلاً أوامر أمير قاطع القلمون في حينه أبو حسن الفلسطيني بالتحرّك الفوري لقتل عسكريين وأسرهم. توجه مع كل من السحلي وأبو عبدالله الجليبيب وبلال ميقاتي وأبو أسيد السوري إلى حاجز «عقبة المبيضة» حيث تمكنوا من أسر ١٢ أو ١٣ عسكرياً. وقد اعترف البازرباشي، مع موقوفين آخرين، بأنّ الجندي عبد الرحيم دياب، هو من سلّم مركز عقبة المبيضة الذي أُسِرَ فيه العسكريون، كاشفين أنّ «دياب كان يوجد غالباً مع أبو طلال الحمد»، سوري من القصير تبيّن أنّه يُدعى يحيى الحمد، وُلّي إمارة «الدولة الإسلامية» في القلمون بعد مقتل أبو حسن الفلسطيني. وكشف أحد الموقوفين أنّ دياب استُبقي في البداية مع العسكريين المخطوفين دون أن يُكشف أمره، لكن بسبب عدم إتمام عملية إطلاق العسكريين بصفقة، لم يعد يُسجن معهم. ولفت إلى أنه سجّل فيديو يُبايع فيه «الدولة الإسلامية» أُرسل إلى القيادي في التنظيم «أبو أيوب العراقي».
يذكر البازرباشي أنّه في اليوم الرابع لمعركة عرسال، اصطحب أبو أسيد وأبو كفاح من دير الزور وأبو جليبيب العرسالي الجندي المخطوف علي العلي ليرمي قذائف ١٠٦ ملم على مركز للجيش فوق وادي حميد حيث حاول الجندي العلي فتح قنبلة يدوية استطاع سحبها من جعبة كانت في الآلية، لكن أبو كفاح نجح في الإمساك بيده ومنعه من تفجيرها، فيما طعنه أبو أُسيد بخنجره في رقبته في جرد الرهوة.
موقوف آخر يدعى إبراهيم بحلق، أصيب برصاص الجيش في ظهره أثناء المعركة ونُقل إلى المستشفى الميداني العائد لمصطفى الحجيري (أبو طاقية)، يروي أنّه شاهد هناك كلاً من نجل الشيخ مصطفى الحجيري، عبادة ووليد عز الدين يُنزلان سبعة أو ثمانية عسكريين مأسورين من سيارة بيك أب بيضاء، كاشفاً أنّ العسكريين الأسرى احتُجزوا في مسجد الفاروق، التابع لـ «أبو طاقية»، الذي صدحت مئذنته بالدعوة إلى «الجهاد». بدوره ذكر الموقوف فرحان عامر أنّ مجموعته أسرت نحو ٦ عناصر احتُجزوا في مستشفى «أبو طاقية» الميداني. كذلك ذكر أنه شاهد ليلة ٣ آب عناصر من «فجر الإسلام» يقتادون سبعة عسكريين أسرى، كان أحدهم مصاباً في رأسه، كاشفاً أنّهم احتُجزوا أيضاً في مسجد «أبو طاقية» في الطابق الأول. علماً أنّ عبادة الحجيري (ابن أبو طاقية)، في مقابلة سابقة لتوقيفه، قال لـ«الأخبار»: «أنا وأبي ومجموعة شبان تدخلنا بالقوة لمنع مسلحي دولة العراق والشام من أخذ عناصر قوى الأمن». وقال عبادة إن «كمال عز الدين قُتل بجانبي عندما كنا نمنعهم، وحصلت مشادة بين أبي ومسلحي الدولة». يروي عبادة أن العناصر نُقلوا إلى منزل الشيخ، رغم تهديد المسلحين باقتحامه لأخذ العناصر ومبادلتهم بـ«أبو أحمد جمعة». ويضيف أن رجال الأمن نُقلوا لاحقاً إلى المسجد، حيث «كانوا يخضعون للحراسة للحؤول دون اختطافهم». ولدى سؤاله: لماذا لم يجرِ تسليمهم للجيش؟ ردّ قائلاً: «يا أخي، نحن أيضاً مغلوبٌ على أمرنا».
بدوره كرر الموقوف صالح عامر الذي بايع جبهة النصرة في قارة مقولة تلقيه أوامر بأسر عسكريين وقتلهم، كاشفاً أنّه هاجم على رأس مجموعة «العسكريين الموجودين على حاجز وادي الحصن حيث تمكنوا من احتلاله وأسر كل العسكريين فيه، كان عددهم خمسة، غير الذين قُتلوا». وقد شاركهم في الهجوم كتائب الفاروق بقيادة «أبو السوس» (الذي بات لاحقاً أمراً لتنظيم «الدولة الإسلامية» في القلمون).
لم يكن العسكريون المخطوفون لدى فصيل واحد، بل توزّعوا على عدة فصائل. جبهة النصرة تمكّنت من أسر العدد الأكبر من العسكريين، فيما اختطف مسلحو «الدولة الإسلامية» سبعة عسكريين فقط. وتمكنت مجموعة تتبع لـ«مغاوير القصير»، يقودها السوري عبد الله بكار، المعروف بـ«المقنع»، من أسر أربعة عسكريين أحضرهم معه مساء ٢ آب ووضعهم في خيمة، مكلِّفاً مسلّحاً بحراستهم. لكن مسلّحي «داعش» طلبوا من «المقنع» تسليمهم الأسرى الذين بحوزته، ففعل مرغماً قبل أن يعدموه مع أربعة مسلّحين ثم عمدوا إلى صَلبه، لكنّهم خيروا مجموعته بين المبايعة والرحيل. وبالتالي، بات في عهدة «الدولة الإسلامية» ١١ عسكرياً في مقابل ٣٣ مخطوفاً لدى جبهة النصرة.

قبض ذابح العسكري عباس مدلج مبلغ ٥٠ دولاراً من الأمير الشرعي لقاء تنفيذ الإعدام

هكذا أُسِر العسكريون في مراكزهم التي لم تكن معززة، رغم التهديدات الأمنية التي كان قائد اللواء المنتشر في المنطقة، العميد عبد الكريم هاشم، يحذّر منها في حينه. وهذا مسار آخر، يُفترض على قيادة الجيش الحالية التحقيق فيه، لكشف المسؤول عن الإهمال والتواطؤ الذي حوّل العسكريين إلى لقمة سهلة أمام المجموعات المسلّحة. وحول كيفية معاملة الأسرى لدى «النصرة»، ذكر الموقوف رياض شرف الدين، مساعد الطبيب الخاص لأمير النصرة «أبو مالك التلي» الذي عالج المسلحين الجرحى الذين كانوا يقاتلون الجيش اللبناني في عرسال، أنّه كان شاهداً على تعذيب العسكريين. وأفاد بأنّه كان يتردد إلى إحدى المغاور في جرود عرسال، التي كانت كسجن للأسرى، لمعالجهتم من جروح كانوا قد أُصيبوا بها. وذكر أنّه بايع النصرة قبل معركة عرسال بنحو شهرين ليتعرف إلى الطبيب السوري أيهم عودة من فليطا الذي كان يدير مستوصفاً في منطقة العجرم، وكان الطبيب الخاص لأمير الجبهة في القلمون. وأفاد بأنّه شاهد هناك السوري أبو تراب، المسؤول عن مراقبة العسكريين الأسرى. كذلك شاهد أبو طلحة اللبناني وأبو بكر البانياسي يقومان بتعذيب العسكريين.
أما كيف أُعدِم العسكريون ومن هم القتلة، فقد كشفت اعترافات الموقوفين الرواية الكاملة.
لقد أعدم تنظيم «جبهة النصرة» كلاً من العسكريين الشهيدين محمد حمية وعلي البزّال. وقد اعترف الموقوف السوري علي أحمد لقيس الملقب بـ«أبو عائشة» في سجن رومية، الذي تبين أنّه الأمير الشرعي لتنظيم جبهة النصرة حيث كان يعطي «دروساً شرعية» لعناصر التنظيم وللعسكريين المخطوفين، أنّه نفّذ أوامر «أبو مالك التلّي» بإعدام العسكري المخطوف محمد حمية بإطلاق النار عليه من مسدس المطلوب الفارّ عمر إبراهيم المعروف بـ «أبو فاروق». إفادة لقيس تقاطعت مع إفادة الموقوف السوري محمد يحيى، الذي أوقفه الجيش على حاجز أمني في عرسال بعدما ضُبط مرتدياً حزاماً ناسفاً، أكد أن لقيس هو من أعدم الجندي حمية. أما الشهيد علي البزال، فقد كشفت تحقيقات الأمن العام أنّ عبدالله الفليطي، شقيق رنا الفليطي زوجة البزال، كان أحد عناصر «جبهة النصرة» قبل أن يلتحق بتنظيم «الدولة الإسلامية». وكشفت اعترافاته أنّه كان المحرّض الرئيسي على إعدام صهره بسبب عدم رضاه عن زواج شقيقته بشيعي، وأنّه كان حاضراً في أثناء إعدامه.
الجندي علي السيد كان أول ضحايا تنظيم الدولة الإسلامية. ورغم نشر فيديو يُظهر السيد مع زميله عبد الرحيم دياب يُعلنان الانشقاق، إلا أنّه كان أوّل من ذُبِح ونُشر فيديو يُظهر مقنّعين يتحلّقون حوله قبل أن يحتزّ أحدهم رأسه. وقد أفاد الموقوف البازرباشي بأن الجندي علي السيد ذُبح بأمر من القيادي في التنظيم أبو عبد السلام، كاشفاً أنّ من نفّذ عملية الذبح هو بلال ميقاتي (أبو عمر). وذكر أنّه صوَّر العملية بواسطة هاتفه. وأضاف أنّ الجندي مدلج ذبحه السوري أبو الورد، بأمر من أبو عبد السلام أيضاً، لافتاً إلى أنّه صوّر العملية. وذكر أنّ عمر ميقاتي (أبو هريرة) قطع جزءاً من إحدى أُذني جندي خلال تعذيب العسكريين. وكان قد عمد سابقاً إلى التمثيل بجثة الشهيد علي السيد.
أما الشهيد عباس مدلج، فقد كشفت التحقيقات أنّ الموقوف شادي جنيد نفّذ عملية إعدامه ذبحاً بعد وعد قطعه له أمير التنظيم «أبو بلقيس» بالسماح له بتنفيذ عملية ذبح. هذا الموقوف الذي قال أمام رئيس المحكمة العسكرية العميد حسين عبد الله إنّ «ذبح المرتدين محلّل شرعاً»، كشف أنّه تلقى دروساً في أصول الذبح على يد الشيخ معتصم إدريس! وقد حصل الأمن العام على صور تظهر جنيد وهو يجرّ الشهيد إلى مكان إعدامه حيث كان يقف إلى جانبه الموقوف بلال ميقاتي. وقد قدّم وصفاً دقيقاً للسكين الذي استُخدم في الذبح بعدما شُحِذ في عرسال، كاشفاً أنّه قبض ٥٠ دولاراً من الأمير الشرعي بعد تنفيذ العملية. كذلك اعترف بأنّه اغتال الشهيد في فرع المعلومات زاهر عز الدين. تجدر الإشارة إلى أنّ البازرباشي شكّل مع عمر أحمد ميقاتي (أبو هريرة) وابن خاله عيسى ميقاتي وابن عمه بلال سليم ميقاتي (أبو عمر) مجموعة خاصة امتهنت استهداف العلويين وعناصر الجيش في طرابلس، إذ كانوا يُطلقون النار عليهم في أرجلهم. وقد اعترف أحدهم بأنهم في إحدى المرات أفرغا ٨ طلقات على جندي من آل المصري، ما سبّب مقتله، وقاموا بعدها برمي قنبلة على ساحة كنيسة في طرابلس.