لقاءٌ مُرٌّ
في النهايةِ.. ستضربُ بلّورَ الأملِ
على الأرضِ وينكسرُ
مغرورٌ.. تشعلُ في القلبِ ناراً أبديّةً
ألقيتُكَ.. يا للويلِ.. أيُّ لقاءٍ موحشٍ!
إنَّك تنسى ذلكَ الوعدَ الذي جمعَنا
رأيتُكَ.. يا للويلِ.. أيّةُ رؤيةٍ!

لا نظرةَ
لا شفاهَ
لا شررَ أنفاسٍ
لا رغبةَ.. ولا عناقَ
أيُّ حبٍّ هذا الذي في قلبِكَ!
وما جنيتُ منْهُ؟
تهربُ منّي وفي البحثِ عنْكَ
أسعى دونَ جدوى
مرّةً أخرى.. شفتايَ الملتهبتانِ
تبحثُ عنْ شفتيْكَ
قلبي ينبضُ وبدقّاتِهِ يروي حديثَ الحبِّ
القدرُ لوْ فرّقَني منْكَ
سأفكُّ العقدةَ مِنَ القدرِ.. لا بأسَ
أخشى مِنْ هذا الحبِّ في النهايةِ
يجرُّني إلى الترابِ
صمتي مليءٌ بركودِ الذكرياتِ
شِعري هوَ شعلةُ مشاعري
أنتَ خلقتَ منّي شاعرةً أيُّها الرجلُ
الحبُّ أمامَكَ تجلّى كالشرابِ
ثمَّ اختفى
حينَ أدركَ وقوعي في الحبِّ
صارَ كالنقشِ على الماءِ
وماتَتْ في القلبِ الأماني
تقبيلُ شفتيْكَ يدبُّ في الروحِ
رأيتُكَ ويا لتلكَ الرؤيةِ
ما كانَ هناكَ صدرٌ لأغفو عليهِ
ولا حضنَ لأبكيَ فيهِ
ألعنُكَ وألعنُ هذا الحبَّ وأغبطُكَ
في النهايةِ ستضربُ بلّورَ الأملِ
على الأرضِ وسينكسرُ
مغرورٌ.. تشعلُ في القلبِ ناراً أبديّةً
من المجموعة الشعريّة الأولى (الأسيرة ـــ 1953)

الإجابةُ

يضحكُ الربُّ على وجهِ القمرِ
رغمَ أنَّنا لمْ نلتفتْ إلى ضفافِ رحمتِهِ
لكنَّنا كالزاهدينَ المذنبينَ الذين يرتدونُ الخِرَقَ
لمْ نحتسِ النبيذَ بعيداً عنْ عيونِ اللهِ
ولمْ نكوِ جبينَنا - فرطَ الذنوبِ - بالسوادِ
أفضلُ مِنَ السجودِ في صلاةِ الرياءِ
لمْ نذكرِ اسمَ اللهِ بينَ شفتيْنا
ونخدعِ العالمَ بذكرِ اسمهِ
لمْ نعدْ نحزنُ لوْ شيخٌ بينَ الجموعِ
أغلقَ في وجوهِنا - وهوَ مسرورُ - أبوابَ الجنّةِ
هوَ سيفتحُ.. هوَ.. ذلكَ الذي يلطفُ بنا مِنْ صفائِهِ
كأنَّهُ خلقَ طينةَ وجودِنا مِنَ الحزنِ
العاصفةُ لمْ تأخذْ مِنْ شفتيْنا الابتسامةَ
كأنَّنا جبالٌ نجلسُ وسطَ البحارِ
ولأنَّ الصدرَ مكانُ جوهرِ الحقيقةِ..
جلسْنا أمامَ أمواجِ الأحداثِ وحدَنا
نحنُ.. نحنُ الذينَ سمعْنا طعناتِ الزاهدينَ
نحنُ..نحنُ الذين شققْنا ثيابَ التقوى
لأنَّ تحتَ هذهِ الثيابِ - غيرَ الغشِّ والكذبِ
لمْ نرَ مِنْ هؤلاء العابرينَ شيئاً
هذه النيرانُ التي تشتعلُ في قلوبِنا
لوْ كانتْ بقلبِ هذا الشيخِ
لما قالَ لنا نحنُ الذينَ نحترقُ فرطَ شرر ِالحبِّ
إنَّنا مذنبونَ..
دعْهُمْ يطعنونَ ويهمسونَ في آذانِ بعضِهِمْ حكايةَ حبِّنا
لمْ يمتْ أبداً ذلكَ الذي اشتعلَ قلبُهُ مِنَ الحبِّ
في صحيفةِ العالمِ مخلّدٌ عنوانُنا.
من المجموعة الشعريّة الثانية (الجدار – 1957)

تمرّدُ الربِّ

لوْ كنتُ إلهاً لناديتُ الملائكةَ ليلاً
لتخلّصَ فلسَ الشمسِ مِنْ فرنِ الظلامِ
كنتُ أقولُ لحرّاسِ البساتينِ بغضبٍ
ليقطعوا ورقةَ القمرِ الأصفرِ مِنَ الغصنِ
في منتصفِ الليلِ وراءَ ستائرِ الغرورِ
قبضةُ غضبي ستحرّكُ العالمَ
ويدي المتعبةُ بعدَ ألفِ عامٍ مِنَ الصمتِ
ستدفعُ الجبالَ في أفواهِ البحارِ المفتوحةِ
وأفكُّ القيودَ عنْ أقدامِ آلافٍ مِنَ الفتياتِ المحموماتِ
أمزّقُ ستائرَ الدخانِ لتزأرَ الريحُ
وترقصُ فتاةُ النارِ ثملةً في أحضانِ الغاباتِ
واأخرجُ مِنْ نايِ سحري في الليلِ
حتّى يستيقظَ كثعبانٍ ظمآنَ مِنْ نومِهِ
متعبةٌ مِنَ العمرِ هامدةٌ فوقَ صدرٍ رطبٍ
في قلبِ مستنقعِ الليلِ يسقطُ
وأقولُ للرياحِ بهدوءٍ فوقَ النهرِ الملتهبِ:
هناكَ قاربٌ بعطرِ الزهورِ سيسيرُ في المياهِ
وأفتحُ القبورَ كيْ تدخلَ آلافُ الأرواحِ الحائرةِ
في الأجسادِ مرّةً أخرى
لوْ كنتُ إلهاً لناديتُ الملائكةَ ليلاً
ليغلوا ماءَ الكوثرِ في دلوِ البرزخِ
وليخرجوا مِنْ عشبِ الجنانِ أكثرَ اخضراراً
متعبةٌ مِنْ زهدِ الربِّ في منتصفِ الليلِ في سريرِ إبليسَ
ورغمَ الخطأِ لبحثتُ عنْ أمانٍ جديدٍ
ولاخترتُ مِنْ بهاءِ تاجِ ذهبيٍّ ربّاً جديداً
بلذّةٍ مظلمةٍ وموجعةٍ في أحضانِ ذنبٍ آخرَ.
من المجموعة الشعريّة الثالثة (العصيانُ - 1959)

في غروبٍ أبديٍّ

ليلٌ أمْ نهارٌ؟
لا يا صديقي.. إنَّهُ غروبٌ أبديٌّ
معَ عبورِ حمامٍ في الرياحِ
كأنَّها توابيتُ بيضاءَ
وأصواتٌ مِنْ بعيدٍ مِنْ ذلكَ الحقلِ الغريبِ
الهائجِ التائهِ كالرياحِ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
قلبي يريدُ أنْ يعانقَ الظلمةَ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
كمْ ثقيلٍ هذا النسيانُ!
تفاحةٌ تقعُ مِنْ غصنِ
حبّاتِ الكتّانِ الصفراءِ
تتكسّرُ تحتَ منقارِ الكناري العاشقةِ
زهرةُ الباقلّاءِ تمنحُ أعصابَها الزرقاءَ
إلى سكرِ النسيمِ
كيْ تتخلّصَ مِنْ قلقِ التغييرِ المبهمِ
وهنا بداخلي.. في رأسي؟
آهٍ..
في رأسي لا يوجدُ شيءٌ غيرُ دورانِ ذرّاتٍ حمراءَ
ونظرتي كحديثٍ كذوبٍ
خجلةً ومطأطئةً
-أفكّرُ بالقمرِ
- أفكّرُ بالحرفِ في الشعرِ
- أفكّرُ بنبعٍ
- أفكّرُ بالوهمِ في الترابِ
- أفكّرُ برائحةِ حقولِ القمحِ الغنيّةِ
- أفكّرُ بأسطورةِ الخبزِ
- أفكّرُ ببراءةٍ في اللعبِ
وبذلكَ الزقاقِ الضيّقِ الطويلِ الذي كانَ مليئاً بعطرِ أشجارِ الأكاسيا
وأفكّرُ بيقظةٍ مُرّةٍ مِنَ النومِ بعدَ اللعبِ
والذهولِ بعدَ العبورِ مِنَ الزقاقِ
ومِنَ الفراغِ الطويلِ بعدَ عطرِ الأكاسيا
-البطولاتُ؟
- آهٍ
الأحصنةُ كهِلَةٌ
- الحبُّ؟
- إنَّهُ وحيدٌ ومِنْ نافذةٍ صغيرةٍ
ينظرُ إلى صحارٍ دونَ مجنونٍ
وبمعبرِ الذكرياتِ الزائفةِ
وساقٍ نحيفةٍ تتباهى في الخلخالِ
- الأمنياتُ؟
- تخسرُ ذواتَها
أمامَ ألوفِ الأبوابِ المغلقةِ دونَ رحمةٍ
- مغلقةٌ؟
- أجلْ.. دائماً مغلقةٌ.. مغلقةٌ أفكّرُ ببيتٍ
بأنفاسِ لبلابٍ تجلبُ الاسترخاءَ
وأضواءٍ كوميضِ العيونِ
بلياليهِ المتفكّرةِ الكسولةِ الهادئةِ
وبطفلٍ بابتسامةٍ غيرِ محدودةٍ
كحلقةٍ متواصلةٍ تتّسعُ في المياهِ
وجسدٍ مملوءٍ بالدمِ كعنقودِ عنبٍ
- أفكّرُ بالحطامِ
واستيلاءِ الريحِ السوداءِ
وبضوءٍ مريبٍ
يزحفُ في الليلِ على النافذةِ
وأفكّرُ بقبرٍ صغيرٍ صغيرٍ كجسدِ طفلٍ
- العملُ.. العملُ؟
- أجلْ.. لكنْ في تلكَ الطاولةِ الكبيرةِ
يسكنُ عدوٌّ مختبئٌ
يجرُّكَ ببطءٍ ببطءٍ
كما الخشبة والدفتر
وألف شيء تافه آخر
لكنْ في النهايةِ ستغرقُ في فنجانِ شايٍ
كزورقٍ في الإعصارِ
وفي أعماقِ الأفقِ لمْ ترَ شيئاً سوى دخانِ سجائرَ وخطوطٍ غيرِ مفهومةٍ
- نجمةٌ واحدةٌ؟
- أجلْ.. مئاتٌ مِنَ النجومِ.. لكنْ..
جميعُها في الليالي محبوسةٌ
- طيرٌ واحدٌ؟
- أجلْ.. مئاتٌ.. مئاتٌ.. لكنْ..
جميعُها في ذكرياتٍ بعيدةٍ
بغرورٍ عبثيٍّ برفرفةِ جناحيْها
-أفكّرُ بصرخةٍ في الشارعِ
- أفكّرُ بفأرٍ في الجدارِ
أحياناً يعبرُ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
في الفجرِ في اللحظاتِ المرتجفةِ
الفضاءُ مملوءٌ بشعورِ البلوغِ
فجأةً.. يمتزجُ بشيءٍ مبهمٍ
قلبي يريدُ
أنْ يستسلمَ للطغيانِ
قلبي يريدُ أنْ يمطرَ مِنْ غيمةٍ كبيرةٍ
وأقولُ.. لا لا لا
- دعْنا نذهبُ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
- الكأسُ أمِ السريرُ؟ الوحدةُ أمِ النومُ؟
دعْنا نذهبُ.
من المجموعة الشعريّة الرابعة (ولادة أخرى – 1964)

النافذةُ

نافذةٌ واحدةٌ
نافذةٌ واحدةٌ للرؤيا
نافذةٌ واحدةٌ للاستماعِ
نافذةٌ واحدةٌ أشبهُ بفوّهةِ بئرٍ
في نهايتِها تصلُ إلى قلبِ الأرضِ
وتفتحُ أمامَ زرقةٍ واسعةٍ ومكرّرةٍ بلونٍ أزرقَ
نافذةٌ واحدةٌ تملأُ تلكَ اليديْنِ الصغيرتيْنِ الوحيدتيْنِ..
مِنْ عطرِ النجومِ الكريمةِ
ونستطيعُ مِنْ هناكَ أنْ ندعوَ الشمسَ
إلى غربةِ هذِهِ الورودِ الصناعيّةِ
نافذةٌ واحدةٌ تكفيني
أنا آتيةٌ مِنْ مدينةِ الدمى
مِنْ تحتِ ظلالِ الأشجارِ الورقيّةِ
مِنْ بستانٍ في كتابٍ مصوّرٍ
مِنْ مواسمِ التجاربِ الجافّةِ
والعقيمةِ مِنَ الصداقةِ والحبِّ
في أزقّةِ البراءةِ المتربةِ مِنْ نموِّ سنواتِ الحروفِ الأبجديّةِ المصفرّةِ
مِنْ وراءِ طاولاتِ تلكَ المدرسةِ المسلولةِ
مِنْ تلكَ اللحظةِ التي استطاعَ بها الأطفالُ..
أنْ يكتبوا على اللوحِ مفردةَ.. (الصخرةُ)
والزرازيرُ – بعجلٍ - طارتْ مِنَ الشجرةِ الكهلةِ
أنا آتيةٌ مِنْ بينِ جذورِ النباتاتِ الآكلةِ اللحومَ
عقلي لا يزالُ ممتلئاً بصوتِ وحشةٍ
تلكَ الفراشةُ التي صُلبتْ بدبّوسٍ في الدفاترِ
عندما كانتْ ثقتي مصلوبةً بخيطِ العدلِ الرفيعِ
وفي المدينةِ كانوا يمزّقونَ أضواءَ قلبي قطعةً قطعةً
ويغلقونَ عيونَ طفولةِ العشقِ..
بمنديلِ القانونِ الأسودِ
ومِنْ أعلى جبينِ أمنيتي كانَ يفورُ الدمُ
حينَ كانتْ حياتي.. لا شيءَ سوى دقّاتِ ساعةٍ جداريّةٍ
فهمتُ..
يجبُ
يجبُ
يجبُ
أنْ أعشقَ بجنونٍ
نافذةٌ واحدةٌ تكفيني
نافذةٌ واحدةٌ للحظةِ اليقظةِ والنظرةِ والصمتِ
الآنَ.. نبتةُ الجوزِ كبرتْ
للحدِّ الذي تستطيعُ أنْ تفسّرَ للجدارِ..
طراوةَ أوراقِها اليانعةِ
اسألِ المرآةَ عنِ اسمِ منقذِكَ
هلِ الأرضُ التي ترتجفُ تحتَ قدميْكَ..
أكثرُ وحدةً منْكَ؟
الأنبياءُ جاؤوا بنبوءةِ الدمارِ إلى قرنِنا
هذِهِ الانفجاراتُ المستمرّةُ..
هذِهِ السحبُ المسمومةُ..
هلْ هيَ صدى هذِهِ الآياتِ المقدّسةِ؟؟
أيُّها الصديقُ..
أيُّها الأخُ الذي دمي ودمُكَ واحدٌ..
عندَ وصولِكَ إلى القمرِ..
اكتبْ هناكَ قتلَ العامِ للورودِ
- دائماً - الأحلامُ تنتحرُ وتموتُ مِنِ ارتفاعِ السذاجةِ
أشمُّ البرسيمَ الذي ينمو على قبرِ المفاهيمِ القديمةِ
المرأةُ التي دُفنتْ بكفنِ الانتظارِ والعصمةِ
كانتْ زهرةَ شبابي
هلْ سأتسلّقُ مرّةً أخرى سلالمَ الاستطلاعِ..
حتّى ألقي التحيّةَ على الربِّ الحنونِ الذي يتمشّى فوقَ سطحِ البيتِ؟
أشعرُ أنَّ الوقتَ قدْ مضى
أشعرُ أنَّ (اللحظةَ) نصيبي مِنْ أوراقِ التاريخِ
أشعرُ أنَّ الطاولةَ مسافةٌ كاذبةٌ بينَ جديلتي ويدَيْ هذا الغريبِ الحزينِ
قلْ لي شيئاً..
الذي يمنحُكَ حنانَ جسدِهِ..
ماذا يريدُ منْكَ سوى الشعورِ بالحياةِ لمرّةٍ واحدةٍ؟
قلْ لي شيئاً..
أنا في مأمنِ النافذةِ..
لي ارتباطٌ معَ الشمسِ
من المجموعة الشعريّة الخامسة (فلنؤمنْ بطليعةِ الموسمِ الباردِ - 1974)
* شاعرة ومترجمة ـــــ من كتاب «الأعمال الشعرية الكاملة/ فروغ فرخزاد» - دار المدى ــــ 2017