من يقرأ «رفات جلجامش» (دار فضاءات ــــ الأردن) للشاعر المغربي صلاح بوسريف، سيكتشف نوعاً آخر من الكتابة، تتآنس فيه نصوص منتزعة من مرجعيات متعددة تسبكها يد الشاعر رغم اختلاف منابعها ومصباتها، حيث يلتقي التراث بالأسطورة، والدين بالأدب ليتآلف المحسوس مع المجرد، والفلسفة مع الوجدان في تناغم شعري كبير، يتفتق عنه منتوج أدبي جديد، بقدر ما يتقاطع مع المتن الأسطوري السومري بقدر ما يقطع معه. انحاز صلاح بوسريف، بوعي تسنده الخبرة والدربة في الكتابة، إلى تأليف عمل شعري مطول (330 صفحة) وفق بناء محكم يقوم على فكرة «المشروع»، لا على تجميع النصوص. ما يقوم به الشاعر هو كتابة فوق كتابة سابقة. لا يتعلق الأمر هنا بعملية التناص فحسب، حيث يستقي الكاتب نصّ مادته من نص آخر أو يتفاعل مع أنظمته الأسلوبية، بل يتجاوزه إلى إعادة إنتاجه وتوظيفه في سياقات راهنة. هذا التجاوز سيبدو للقارئ منذ العتبات الأولى للنص. فقد اختار بوسريف أن يضع عنواناً فرعياً للعمل: «الرجل الذي سيُنبت شجرة جديدة». وتتيح مساحة التأويل هنا أن ندرك أنّ الشاعر يراهن على الزمن كعنصر يخدم العملية الإبداعية ويعمّق تيماتها، فهو يستدعي كائناً أسطورياً من الماضي إلى الحاضر، من أجل أداء مهمة في المستقبل: إنبات شجرة جديدة.

يستدعي الشاعر جلجامش، وما جلجامش سوى قناع يمرّر عبره خطابه الفلسفي والتأملي في ماضي العالم وراهنه. يلجأ إلى من يقوم بمهمة عجز عنها الإنسان المعاصر. لذلك، ينادي على جلجامش ويعيد إحياء رفاته، لأنّه أقوى وأعلى من الإنسان العادي العاجز، فهو بشر سرت في جسده دماء الآلهة، ثلثه إنسان وثلثاه إله، وفق الأسطورة السومرية التي تعود إلى بداية الحضارة في بلاد ما بين النهرين، ولم يتم الانتباه إليها إلا في أواسط القرن التاسع عشر.
يتماهى الشاعر مع الأسطورة حيناً، وأحياناً يسعى إلى إنزالها من عليائها الخرافي إلى واقع الحياة اليومية، فتحس أنّ ما يقترحه من مشاهد تخييلية لا يختلف كثيراً عما نعيشه في حياتنا الراهنة، خصوصاً ما يتعلق بتيمة الصراع بين الخير والشر.
تتعدّد شخصيات النصّ الشعري وفق تعددها في الحكاية الأسطورية، من أنليل إلى ننسون وأنكي وإيراكلّا وأتو نبشتم وخمبمابا وسدوري وأورشنابي، وتتداخل أصوات السرد وتتناوب على نقل الأحداث ووصف المشاهد، لكنّ أقرب صوت في هذا النص الملحمي لصوت الشاعر هو أنكيدو الذي جاء لمجابهة جبروت جلجامش، المستبد الذي كان يسطو على زوجات الآخرين. أنكيدو الذي يريد أن ينقذ جلجامش من غيّه، ليتأتى له أن يعيد الحياة إلى مجراها المثالي، حيث لا ظالم ولا مظلوم: «أنا الذي سأبدّل المصائر/ سأنزع عن أوروك الشوكة/ العالقة في حلوق العذارى./ لن يجري ماء في رحم امرأة/ غير ماء زوجها». يفتتح الشاعر جزء «أوروك ذات الأسواق، أوروك ذات الأسوار» بالسؤال التالي: «لم البلاد زاد أنينها؟/ جفلت الشمس/ واستفحل فيها ضجر الطغيان». سؤال لا ينحصر طرحه بالماضي الميثولوجي السحيق، بل ينسحب أيضاً على الراهن الواقعي.

تتعدّد الشخصيات وفق تعددها في الحكاية الأسطورية

يفتح الكثير من المقاطع الشعرية باب النقاش الوجودي الذي تتصادى أسئلته باستمرار، منذ بداية الوعي بالخلق إلى نهاية الوجود البشري. الشاعر يتساءل عما إذا كان الخير والشر يعودان إلى أصل واحد. هذا ما يقوله أنكيدو لأمه: «ننسون/ أيتها الأم التي بظلك أفيء/ يا حامية جلجامش العتيد/ وخالقة جبروته/ (...) أنتِ من جعلته لي نداً/ كما لو أننا معاً/ خرجنا من نفس الماء».
يحضر السؤال الميتافيزيقي بشكل صارخ، على لسان أنكيدو: «لا صوت يأتي من السماء/ كأن لا آلهة هناك/ أو كأنّ الأعالي خلاء». يوظف الشاعر هنا تشبيهاً ماكراً يتوخى عبره التشكيك، لكنه لا يبحث عن جواب، لا يهمه اليقين، بقدر ما يهمه الاحتفاء بأدب المصائر والأهوال، حيث الأسئلة الكبرى هي مداخل الكتابة. أما الأجوبة فتوجد دائماً خارج النص.
في نقاشاته المستمرة وأبحاثه النقدية، يتحدث بوسريف باستمرار عن مفهوم «ما بعد القصيدة» ويعني به النص المركب الذي تتماهى فيه أجناس الكتابة، ولا يحمل صوتاً واحداً، ولا يراهن على بناء واحد، له بداية ونهاية يتحكم الشاعر في زمنهما وشكلهما. لعلّ «رفات جلجامش» هو الترجمة المثلى لتصورات بوسريف النقدية بخصوص كتابة الشعر. نحن أمام نص لا خاتمة له، على الأرجح أمام نص لا ينتهي. ربما، لذلك سمى الشاعر صفحاته الأخيرة «عتبات الأبدية»، كأنه يتبنى فكرة الروائية الفرنسية سيدوني غابرييل كوليت «لا تقود الكتابة إلا إلى مزيد من الكتابة». ثم إنّه نص حافل بالسرد، وفي الآن ذاته يتدفق بالصور والتشكيلات الشعرية، حيث تتجاور أجناس الكتابة، ويتقاطع الخيال مع المعرفة.
تختلط المتون بالحواشي، ويتداخل المكتوب الأساس بمكاتيب أخرى، فنقرأ بين مقاطع وأجزاء النص الشعري نصوصاً مجتزأة من ملحمة أترا - حسيس، العهد القديم، إنجيل سومر، القرآن، سفر التثنية، سفر التكوين وسفر العدد، إضافة إلى نصين شعريين لبابلو نيرودا وتيد هيوز.
في رحلته الأسطورية، كان جلجامش يبحث عن تلك المادة السحرية التي تمنح نعمة الأبدية للكائن البشري، وكان يقلقه أنّ هذه النعمة استأثرت بها الآلهة دون البشر: «لا خيار لي/ فأنا لن أعود إلى أوروك/إلا/ ظافراً/ وفي يدي أبدي». في المقابل، لم ينشغل بوسريف في عمله هذا، وفي ما سبقه من أعمال، بالبحث عن سرّ لخلود الإنسان. لقد كان منشغلاً أكثر بالبحث عما يمنح نعمة الخلود للشّعر.