آخر نكتة: فتاة أنهت علوم عامة وشاطرة بالرياضيات، واحزروا ماذا ستدرس؟ مسرح ! فتاة أخرى موهوبة بالرسم نوجهها نحو معهد الفنون الجميلة، يسأل والدها: شو بدها تدرس هونيك؟ نجيب: اختصاص رسم. يقول وهل الرسم اختصاص يا أستاذ، هيدا تسلية بتعملو بالدورات، بدنا اختصاص حقيقي!
يوسف المميز جداً بالتحليل السياسي، لا يعتبر دراسة العلوم السياسية اختصاصاً، وفاطمة إذا سكرت بوجها بكل الاختصاصات يلي بدها امتحان دخول بتروح على كلية الآداب.

والدا حنين يريدان لابنتهما أن تكمل اختصاصاً طبياً، فهي حازت المرتبة الرابعة في لبنان في فرع علوم الحياة. يرفضان أن تدرس اختصاص علم النفس الذي اختارته. تسأل الوالدة: «شو صاير عليها شو بدها تشتغل بكرا بعلم النفس؟». نجيبها بأنها تستطيع أن تفتح عيادة علاج نفسي. تعلق قائلة: «طيب تكفيّ طب، على القليلة منعرف شو بتعالج!».
في كلية العلوم، يقف فادي حائراً ماذا يدرس إحصاء أو بيو كيمياء، وهل الفرق كبير بينهما؟!
هذه هي حال معظم طلابنا، المميزون منهم يختارون بالضرورة فرعاً علمياً في الثانوية العامة، وذوو المستوى المتوسط يوجهون نحو فرع الاجتماع والاقتصاد، وبعض «غريبي الأطوار» سيبحثون كثيراً ليجدوا صف آداب وإنسانيات. المعلمون والنظار والمديرون بمعظمهم يستبطنون هذا التصوّر، لأنه «حرام عليك انت تلميذ شاطر وعلامتك عالية بالمواد العلمية تعمل إنسانيات». هذا يتكرر عشرات المرات كل يوم في معظم المدارس اللبنانية.
بعد عشر سنوات، سنصبح شعباً بلا تاريخ، لأن اختصاص التاريخ عندنا فئة ثانية، وبعد سنوات لن نقرأ روايات عن واقعنا لأنه لا أدباء في موطننا، فدراسة الأدب هي فعل متخلف ممن لم يجدوا أي اختصاص آخر ينفعهم. بعد سنوات أيضاً، سنتندّر على اقتصادي بارع، فكل شبابنا متخصصون في التسويق والمبيعات والمحاسبة، فهذه هي احتياجات سوق العمل الاستهلاكية التي نقطن فيها.
سنبحث عن مخرج مثقف فلا نجده، بل سنجد تقنيي صورة يسمون أنفسهم مخرجين بصريين. لن نجد كاتب سيناريو بارعاً، لن نجد رساماً ولن نجد فيلسوفاً، أو حتى مرشداً نفسياً.
سنجد طوابير المتخرجين من كليات العلوم والإدارة يقفون على باب المدارس للتعليم، أو على أبواب الجامعة يلهثون وراء التفرّغ (من حظي بفرصة إكمال دراسته)، أو سيعودون إلى الخارج الذي درسوا فيه ليعملوا في مختبر بحثي لأن بلدهم «لا يحترم العلم والعلماء»، كما يعبّرون.
أحد أصدقائي يعتب على الدولة اللبنانية كونها لا تستغل اختصاصه في مجال الطاقة النووية، حيث لا تسمح له الدولة التي يعمل فيها بزيارة لبنان سوى مرّة واحدة في السنة. وعندما سألته عن سبب اختياره هذا الاختصاص وهو يعلم أنه لا أفق له في بلادنا، أجابني وهل علي أن أحد طموحي على قياس البلد!
إن ما يحدّد قيمة أي اختصاص اليوم في لبنان بات يرتبط بمردود هذا الاختصاص في سوق العمل، أي إن منظومة التوجيه المهني كلها تُبنى على المواءمة بين القدرات وحاجات سوق العمل، يعني أي فقاعة اقتصادية اليوم ستجذب آلاف المتخرجين والاختصاصات التي ستنتفي الحاجة إليها بعد سنوات قليلة.
إن الربط الدائم بين القدرات وسوق العمل سيقودنا دائماً إلى اختصاصات فئة أولى وثانية، فالاختصاص الذي يعطينا مردوداً مالياً أكبر سيصبح اختصاصاً أفضل، أي إن كل التوجيه مبني على المنفعة الفردية بالدرجة الأولى، لكن لو أضفنا إلى منظومة التوجيه التي نعتمدها عنصر حاجات مجتمعنا وبلدنا (بدل حصرها بحاجات سوق العمل)، فهل ستبقى الاختصاصات وفق التصنيف ذاته؟ وهل سيبقى التاريخ والاجتماع والفلسفة والآداب اختصاصات فئة ثانية؟ وهل كان صديقي النووي إيّاه، سيدرس هذا الاختصاص وهو يعلم في قرارة نفسه أن بلده ينقصه درجات من التحديث والتطوير الصناعي والبحثي ليصل بعدها إلى عتبة المختبرات النووية؟
*طالب دكتوراه في الجامعة اليسوعية