الحالة الفريدة في الكتابة لا يمكن تحديد زمنها أو تاريخها الأولي، وهذا دأب الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (1888 ـــ 1935)، الصندوق السحري للكتابة، الذي دوَّن بأشكال وأسماء مختلفة عبر «حيواته» التي لا يمكن الإمساك بها لاختلافها وتعدّدها.
اليوميات دائماً ما تكون دالَّة على انشغالات الكاتب. لكن مع بيسوا تغدو التكهّنات مستحيلة. يمكن أن يكون بيسوا غافلاً عن شخصيته الحقيقيَّة. لكن ليس بهذه البساطة، يتخلّى الشاعر عن شاعريته وعن ذاته الشعريَّة، حيث ثمّة ما يمكن أن يدلّ على ذات الشاعر آنَ الكتابة.
في «يوميَّات» الذي انتقل إلى العربية عن «دار توبقال» ضمن سلسلة «ذاكرة الحاضر» وبترجمة من المهدي أخريف، مزيَّنة بلوحةٍ شخصيَّة رسمها الفنّان جوزي ألمادا نغريروس، يكون القارئ وجهاً لوجه أمام يوميَّات بيسوا الدقيقة، التي يشعر القارئ لوهلة أنّها عادية! لكن مع التقِّدم في القراءة، تغدو الأفكار الموجودة بين طيّات الكتاب كاشفةً عن وحيٍ ما. تعتبر هذه اليوميَّات التي نشرت للمرة الأولى بالبرتغالية عام 2007، تأريخاً لحياة الشاعر إبّان عودته من دوربان في جنوب أفريقيا، قبل مرحلة خلق الأنداد البيسويَّة، حيث توقّف عن كتابة اليوميات ليتفرّغ لعالمه المتعّدد الذي ربمّا اقتضى جهداً تأمليَّاً أرفعَ من كتابة اليوميَّات «رغم أنّ اليوميات هذه لا تقلّ دقَةً وشدّة ملاحظة من كتابات بيسوا الأخرى».

يبرع بيسوا في الخلق، وهذا ما يبدو عليه في هذه اليوميات التي كتبها قبل بلوغه العشرين... سنّ مبكرة بالنسبة للبدء بكتابة ملاحظات وانطباعاتٍ غريبة بدأت من 1906 وامتدت حتى 1908 ومن 1913 وحتّى 1915 في مرحلةٍ ثانية.
«أنا شاعرٌ مُحفَّزٌ بالفلسفة، ولست فيلسوفاً ذا مزايا شعريَّة. مفتتن أنا بملاحظة جمال الأشياء وبرسم اللامرئي والمتناهي الصغر مِمّا يميّز الروح الشعريَّة للكون». هذا هو دأب بيسوا في النظر إلى روح الشعر داخل الكون من خلال التدوين بأشكال مختلفة، فالشعر في نظره موجود في كلّ شيء كما يقول في مقدّمة اليوميات المقتضبة... تتميّز يوميّات بيسوا بالدقة المتناهية، «فهو يذكر الزمان والمكان بدقّة كأنَّه يكتب تقريراً تأريخياً»، إضافةً إلى قدرة لا متناهية على التقمّص المختلف واجتراح شخصيّات مختلفة ضمن تلك اليوميَّات، كأنّ من يدوِّن ليس بيسوا وحده، بل شخصياتٍ عديدة. هذا ما يبدو في أغلب الأحيان، هذه هي النقطة الحاسمة في كل ما كتبه الشاعر خلال حيواته المتعدّدة.

وِحدة الروح والوحشة والهشاشة والضعف


من خلال اليوميَّات المختزلة والمشذّبة، يستدلّ القارئ على ولع بيسوا بالإيجاز. كلّ شيء مرتّب لفظاً، ودال على المعنى دون زوائد لغويَّة. ثمة قراءة يومية في مكتبة الجامعة وذكر لأسماء الكتب التي يقرأها خلال يومه الذي يبدو قصيراً (إن جازت المقارنة بِقِصَر الملحوظات المدوَّنة)، الذكاء في التعامل مع الجملة المدوّنة التي لا بدّ من أن تدلّ على معنى واحد، الغرابة، اللفظة الأكثر انطباقاً على ما كتبه بيسوا على الإطلاق، سواءُ عبر أنداده الذين خلقهم الواحد تلو الآخر، أو حتّى من خلال اليوميَّات التي تبلغ فيها الصراحة حدّ البساطة اليومية للحياة العاديَّة، كما في يوميَّات/ ملاحظات بعنوان «مخطط عيش»: «لديّ مخطّط عام للعيش يجب أن يتضمّن في المقام الأوّل: الحصول على نوع من الاستقرار المادي. سأضع الحدّ الضروري لما أسميه الاستقرار المادي هذا في حدود ستين دولاراً. أربعون للمتطلبات الضروريَّة للحياة وعشرون لغير الضروريَّة. للحصول على هذا المبلغ عليَّ بأن أضيف إلى الواحد وثلاثين دولاراً المحصَّلة من المكتبين (ي، وف، فا) تسعة وعشرين دولاراً لم أحدّد مصدرها بعد، لكن، إذا توخّيتُ الصرامة، فَخَمسون دولاراً تكفي وحدها للعيش».
هذا ليس مجرّد كلام، إنّه العمق الأساسي للكتابة، كتابة اليوميَّات، حيث المعيشة تُعامَل كمهنة ويجب التخطيط لها بدقَّة متناهية كي يستمرّ الكاتب في التدوين. المعيشةُ محفّزة على التأمّل أكثر في طريقة الكتابة والاسلوب الأنجح في التعامل مع عناصر اليوم العديدة.
تبلغ البساطة حدّ اللامعقول بعض الأحيان. لا يمكن القول عنها إنّها غرابة فقط، ربمّا (على الأقلّ) هو نوع من الصدق في التعامل مع المشاعر التي تفكَّر ومن ثمّ اليد التي تكتب بغرابة بسيطة:
«الثلاثاء 25/3/1913: مرَّت أيَّام عديدة بدون أن أُعير أهميَّة لهذه اليوميَّات، عن هذا اليوم لا أذكر شيئاً».
في أغلب اليوميّات المدوّنة لمختلف الشعراء، ثمّة ابتعاد عن ذكر التأثّرات الشعريّة (على الأغلب)، لكن بيسوا يفرد لها متسّعاً في يوميَّاته (نلحظ بكل سهولة في اليوميات تمازج الذاتي مع الخارجي)، ويبدو ذلك نابعاً من القدرة على مضغ كل التجارب التي قرأها. تحت عنوان «تأثُّرات 1914» وبترتيبٍ تأريخي، يذكر تأثراته الشعريَّة بمن قرأ وقتها بدءاً بميلتون وشيلي وصولاً إلى الروايات البوليسية التي «هي ما تبقَّى لدي من التسليات الفكريَّة في هذه الحياة، بل إن من بين أسعد الأوقات التي أمضيتها في هذه السنة هي تلك التي قرأت فيها كونان دويلي أو أرتور مورّيسون الذي يمتصّ وعيي بتمامه». إن ذكر تأثيرات القراءة على شخصيَّة بيسوا، تحمل دلالات ومعاني «السوداويّة» التي كان عليها في تلك المرحلة، إضافةً إلى سعة الاطلاع والرغبة في جعل القراءة مغامرةً حقيقيَّة.
تكاد اليوميات لوهلة أن تكون تسجيلاً لبديهيَّات بشريَّة! (لقاءات في مطاعم، زيارات لأصدقاء، قراءة وتعديل المقالات في المطبعة). لكن لمجرّد القراءة، تتضّح الروح العميقة داخل تلك اليوميات، لتكون بمثابة انطباعات وملاحظات دقيقة للعالم في فترة من الفترات. وهذا يوضح مدى أهميَّة التأمل في كل ما كتبه وسيكتبه بيسوا بعد هذه اليوميَّات.
كمّ هائل من الأسماء الأدبية المذكورة في اليوميات، يستدلّ القارئ من خلالها على أهميَّة علاقات بيسوا مع الأوساط الأدبية آنذاك ومحاولاته تعميق الأدب في المجتمع البرتغالي، علاقاته وملاحظاته حول ما يُكتَب وما يودّ أن يكون هو و«بلاده» عليه: «إنّ معاناتي القوية لأجل وطني ورغبتي الشديدة في تحسين وضعيَّة البرتغال تجعل – كيف لي أنّ أعبِّر وبأيّ قوَّة، بأي حنان وبأيّ هدوء...- آلاف الأفكار والمشاريع تنبثق بداخلي. لكنّها لكي تُنْجَز من شخصٍ، ستتطلَّب منه مزايا غير متوافرة البتَّة فيّ: أعني قوَّة الإرادة. لكنني أعاني – أعاني حدّ الجنون، أقسم على ذلك- كما لو كنت قادراً على إنجازها لولا افتقاري إلى الإرادة، وإنَّها لمعاناة رهيبة تضعُني بشكل دائم، أُلِّحُّ، على حافَّة الجنون».
وِحدة الروح والوحشة والهشاشة والضعف التي تعتبر نقاط قوّة على عكس ما هو متداول بين العامَّة، - كما كان عليه كافكا ولوتريامون وآخرون ـ دائماً ما كان يعاني منها بيسوا، وهذا ما تعبّر عنه الكتابات التي أعطته فيما بعد، المكانة الأعلى «ليس فقط في البرتغال ولكن أيضاً في كلّ العالم». هذه اليوميَّات تعطي مجالاً أوسع للتعرّف عن كثب إلى شخصيَّة سحريَّة برعت في الخلق... صندوقٌ سحريّ لا يبرح يكشف كلّ يوم عن أسلوبٍ جديد وطرحٍ مغاير.