هناك صلة نسب من نوعٍ ما بين صُنع الله إبراهيم وسلفه المؤرخ تقي الدين المقريزي. انشغل الأخير في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة» بوصف المجاعات التي أصابت مصر المملوكية وأسبابها، فيما رصد الأول مجاعات من نوعٍ آخر، برؤية موشورية تعمل على هتك المخبوء، والعفونة الحامضة التي تتسرب من شقوق الجدران المعتمة إلى الفضاء الخارجي.
ربما كان الجوع الجنسي هو بؤرة اشتغالاته الروائية بوصفه تمثّلاً نموذجياً للأعراف المغلقة على قيم وإكراهات صارمة تثقل حركة شخوصه. اتكاؤه على ما هو سيروي في تدوين الوقائع، أضفى ضرباً من «التلصص» على مناخاته التخييلية، وهو بذلك يزعزع الخط الأفقي للمؤرخ نحو ما هو سوسيولوجي صرف، بنقلات موجعة، ذلك أن المسافة بين «تلك الرائحة»، وأعماله اللاحقة تنطوي على فتوحات سردية تخصّه وحده، كصاحب عمارة روائية مشغولة بمهارة وأناة، قد لا تثير التسلية أو المتعة، لكنها تترك ندبة عميقة لدى المتلقي، نظراً إلى طريقته الاستثنائية في حياكة خيوط نصوصه، فهو يتكئ على الأرشيف في المقام الأول لتعزيز مجرى السرد وروافده، كما فعل في «ذات» مثلاً. لكنه - في نهاية المطاف- ينتصر للأرشيف المضاد لتصحيح الصورة وإزالة الغبش عنها، وهنا تحديداً، يلتقي مع المقريزي لجهة «كشف الغمة» عن الهوامش المهملة. هكذا اطاح الحكاية المتخيّلة لمصلحة الوثيقة، مستثمراً تجواله بين الخرائط، كأمكنة عيش وذكريات ومكاشفة، في كتابة موازية (برلين، موسكو، ظفار، بيروت، القاهرة). عدسة مفتوحة على التفاصيل، مهما قلّ شأنها، بالطريقة نفسها التي يرصد فيها «جمالية الأماكن الضيقة»، فالسجن ثيمة مكرّرة في معظم أعماله، ليس من موقع الاتهام السياسي فحسب، إنما لجهة العناية بعذابات الجسد المكبّل وحاجاته، وإذا بهزيمة الجسد تنطوي على هزيمة عمومية، وخيبات وجودية، وانكسارات، إذ لا نسمة أوكسجين تتسرب من الفضاءات الكتيمة، كأن كل ما يكتبه هذا الروائي يقع بما يمكن أن نسميه «خزّان الخسارات». سيلجأ في «اللجنة» إلى محاكمة كافكاوية بامتياز. وربما سيستدعي جورج أورويل إلى تلك المهزلة المرعبة، بقصد تشريح ممارسات السلطة الشمولية، مستبطناً تجربته الشخصية في المقام الأول كمرآة لمصائر شخوصه. لاحقاً سيستنجد بمؤرخ آخر هو عبد الرحمن الجبرتي، صاحب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، ولكن من موقع الضدّ، بقصد إعادة تأريخ حملة نابليون بونابرت على مصر، وصراع «العمامة والقبعة» من وجهة نظر المهمشين. امتياز صنع الله إبراهيم في المدوّنة الروائية العربية انحيازه إلى مفردة التمرّد، سواء في متن النصّ، أم لجهة ابتكار أشكال سردية نافرة تستوعب سخطه وغضبه واحتجاجاته ضد عالم يحتضر في وضح النهار، فهذا روائي اختصاصه الاول صناعة الكوابيس لا المنامات الوردية، لكننا في مطرحٍ ما، سنتساءل عن جدوى تلك اللغة المقشّرة من أي بلاغة سردية، تلك التي لجأ إليها في بعض أعماله الأخيرة، «الجليد» مثلاً، وإلى أي رهان تحتكم هذه المدوّنة في استقطاب ذهن متلقي اليوم واهتماماته؟