الماضي والحاضر مفهومان معقدّان. نحن غير قادرين على قياس الزمن، كما لا يمكننا خلقه، إعادته، أو الهرب منه. ومدينة مثل بيروت تدّعي أنها استطاعت التملّص من نتائج الزمن عبر تاريخها، يصعب عليها استيعاب أن شكلها وإحساسها اليوم ليسا سوى نتيجة مباشرة لإنكارها للتاريخ.
الحياة في بيروت تبدو كأنها تدور في حلقة مغلقة، لأنّ سياسيّي تلك المدينة درّبوا الشعب على السكن في حلقة حيث معظم الأشياء تبقى غير منجزة، من الحقوق المدنيّة حتى أصغر حفرة في الشارع، جاعلين من الصعب تحديد أو حتى التفريق بين الماضي والحاضر. ضمن تلك الحلقة، ما هي الأدوات التي يمكننا أن نلجأ إليها لتساعدنا في فهم أين نقف اليوم؟
تلك الضبابيّة في تحديد الماضي والحاضر أو حتى التفريق بينهما، تنعكس على هويّة المدينة، وتظهر جليّاً في المباني المهجورة. مبان نراها تلقائياً كقطع أثريّة من زمن الحرب. لكن هل يمكننا فعلاً النظر إلى «الهوليدي إن» و«برج المرّ» و«بيضة السيتي سنتر» و«مسرح البيكاديللي» والمباني الأخرى المهجورة في هذه المدينة، والقول إنّها فقط كذلك؟ تشكل تلك المباني مساحة من النسيج المعماري للمدينة، أفلا تستحق موقعاً في الحاضر؟ لا بل إن تلك المباني بإمكانها أن تكون الخطوة الأولى والمناسبة لكسر تلك الحلقة المغلقة التي تحول دون مطالبتنا بهويّة معاصرة للمدينة، ولنا.

ترميم مبنى قديم إنما
هو فعل إنكار ذاتي


يجب علينا التصالح مع أمر واقع بأن مباني بيروت المهجورة ليست أشباحاً لماضيها، أو أيقونات موزّعة ضمن النسيج المعماري للمدينة اليوم. من المقلق أن تصبّ أيّ محاولة لإنقاذ تراث بيروت المعماري في تحنيط مجموعة من المباني التي ترمز إلى زمن مجدٍ ولّى. المدينة ليست متحفاً، بل وسيط يساعد ويظهّر تطوّر سكّانها. من البديهي أن يكون انطباعنا الأول عن مبنى مكسوّ بثقب الرصاص أنه من مخلفات الحرب. لكن بعد مرور ٢٥ عاماً على انتهاء الحرب، من المخيف أن يبقى انطباعنا الأول، هو انطباعنا الوحيد. ماذا بإمكان مبنى مهجور أن يكون غير ذلك؟ والأهم، ماذا يعني مبنى مهجور اليوم؟
إنه ليس قطعة أثريّة من الحرب، بل اختبار. المبنى المهجور في بيروت اليوم، يطرح نفسه كسؤال لا جواب عليه بعد. أن ندهن ونرمم مبنى قديماً محاولين إعادته إلى ما كان عليه، ليس بجواب، بل هو فعل إنكار ذاتي. أنّ ندمّره، ونبني شيئاً آخر، مدّعين أنه لم يكن يوماً موجوداً، أيضاً فعل يقع تحت سقف الإنكار الذاتي لكن بهيئة مختلفة. البحث عن جواب أو أجوبة مختلفة لكيفيّة التفاعل مع أبنية بيروت المهجورة، بإمكانه أن يشّكل أداةً لكسر الحلقة المغلقة التي تعانيها المدينة ككلّ. علينا أولاً إخراج تلك المباني من الحجِر المفروض عليها كأيقونات لا يمكن المسّ بها، لكي نستطيع الاستعانة بها كأدوات.
إنّ الهوس المتطرف بالقيمة الأيقونيّة للمباني المهجورة في بيروت أدى إلى خلق «كولاج» كاريكاتوري بين ماضٍ غير محلول ومحاولات فاشلة للحاضر. يظهر ذلك جلياً عندما ننظر إلى احتضار «الهوليدي إن» وفندق «فينيسيا» المجدد قربه، إلى عريّ برج المرّ وازدهار الأبراج السكنيّة قربه، أو حتى إلى تفتّت مبنى «مسرح البيكاديللي» في قلب شارع الحمرا. كيف بإمكاننا استعادة الأبنية المهجورة لتعود إلى ما ينبغي للهندسة المعماريّة أن تكونه: منفذاً للإمكانيّات؟
هكذا يمنح مشروع «ألو، شايفني؟» صوتاً لتلك الأبنية المهجورة لتتكلم مع سكان المدينة ومع الأبنيّة المجاورة لها، لا عن الماضي، ولا عن الحرب، بل عن الحاضر. هكذا تستعيد تلك المباني موقعاً ضمن الحاضر، بعيداً عن قدسية الأيقونة، لتحكي مشاعرها، وهمومها، ورغباتها وتفاصيل أخرى. ومن موقعها اليوم، تنادي سكان المدينة «ألو، أنا لست أثراً، ولا ذكرى، ولا أيقونة، أنا مبنى مهجور يصل ماضيك بحاضرك، ولا أريد منك أن تعيدني إلى الماضي، بل أريد أن نتكلم في الحاضر، في حاضر هويّتك وهويّتي اليوم ... شايفني؟».