«قضيّة ميشال بوجناح» التي قسمت الرأي العام والنخب المختلفة في تونس، وأثارت نقاشات حادّة، صادمة ومفاجئة أحياناً، يمكن اعتبارها الامتحان الحقيقي الأول مع «التطبيع الثقافي» الذي يواجهه بلد الاستثناءات الثقافيّة والسياسيّة، منذ ثورة 14 جانفي.
«إمتحان أوّل» بهذه الضخامة، في البلد الذي أشعل شرارة ما سمّي بـ «الربيع العربي»، لكنّه قطعاً لن يكون الأخير! لا يتطلّب الأمر كثيراً من الذكاء السياسي، كي ننتبه إلى أن مشاركة ميشال بوجناح في «مهرجانات قرطاج الدوليّة» في 19 تموز (يوليو)، في حال لم يُتخذ قرارٌ وطني حاسم بالعودة عنها، هي قبل كل شيء بالون اختبار لمدى قدرة المجتمع التونسي، الغني والحيوي والمميّز، بعد كل ما عاشه من هزّات وتحوّلات واعادات نظر، على مواجهة الاختراق الإسرائيلي لوعيه وخطابه. أو بالعكس، مدى قابليّته لـ «أنسنة العدو»، وتلقف «فكرة إسرائيل» واحتضانها وقبولها، كونها «صنواً للتقدّم والانعتاق»، و«شريكاً» في البحث عن «هويّات جديدة»… أو في أفضل الحالات بصفتها «وجهة نظر» قابلة للنقاش، مرحّباً بها تحت لواء «الانفتاح» و«الحريّة» و«الاختلاف» و«القبول بالآخر» (!). وغير ذلك من فخاخ ومغالطات، واختزالات فكريّة، تمخّض عنها «الربيع» المجهض، وصُممت لتكون قشرة من السيلوفان اللاصق، المسموم، الذي يغلّف العقل العربي «الجديد».
إن وقوف بوجناح في المدرج الروماني العريق في «قرطاج» بعد أيّام، بما يحمله هذا الكوميدي الفرنسي، «التونسي الأصل»، من خطاب سياسي صريح داعم لإسرائيل، وانخراط معلن في المشروع الصهيوني، إنما هو تكريس في تونس، لبداية نهاية مرحلة أساسيّة من فهم الصراع العربي - الاسرائيلي. من دولة تأسست على المجزرة، من عدو قاتل محتل، يواصل المذبحة منذ 70 عاماً، ماضياً في سرقة الأرض واغتصاب الحقوق، وطمس هويّة شعب عربي، ومصادرة وجوده وشرعيّته… من كيان غاصب يشكل تهديداً للشعوب العربيّة… إلى دولة «متوسطيّة»، «شرق أوسطيّة»، لا بد من التحاور معها، ثم التعاون معها، لبناء مستقبل مشترك على طريقة TomorrowLand، ومحو «خلافات الماضي» بين «الإخوة الأعداء»… تحت راية «الحضارة والحوار والسلام». بوجناح في تونس، لا يمكن إلا أن يكون سفيراً لهذا الاستسلام العظيم. كيف سمحت السذاجة لبعض أصدقائنا ورفاقنا، لشخصيّات فكرية وثقافيّة، تشكّل الطليعة التنويرية العربيّة، شخصيات نعرفها ونحترمها ونعتزّ بانتاجها ووعيها ومعاركها، أن تتغاضى عن هذه الحقيقة السافرة، باسم «حرية الاختيار»؟ اختيار ماذا؟ السكين التي سيذبحنا بها جيش الاحتلال بدعم من الفنان الضاحك؟ حريّة قاتلنا الذي بات منطقه «خياراً» ووجهة نظر؟
نأمل ألا يكون صحيحاً هذا الهراء الذي نُسب إلى مدير المهرجان: «بوجناح كيهودي يحب اسرائيل، كما المسلمون يحبون مكة»! لا يتعلّق الأمر بديانة بوجناح. عليه أن يختار بين «إسرائيليّته» و«تونسيّته»: تلك هويّتان لا يمكن جمعهما! بوجناح تونسي الأصل؟ يا سلام! سيلفان شالوم أيضاً أصله تونسي، وهو وزير الداخلية السابق في حكومة العدو، وصاحب فكرة «جدار العار»! أما يهود المغرب الكبير، فهم جزء من حضارته وهويّته وتاريخه، وما زلنا نحمل كجرح في ضميرنا الخطأ التاريخي الذي أدّى الى «طردهم» من مدنهم بعد النكسة. لقد كانت أعظم هديّة لإسرائيل. يهود المغرب الكبير، يمثّلهم جورج عَدّة وأبراهم السرفاتي وإدمون عمران المليح، ولطالما كانوا رأس حربة الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة بوجه الكيان الغاصب الذي لم يتماهوا معه يوماً. رينات الوهرانيّة عاشت في فرنسا، ولم ترنُ يوماً إلى إسرائيل أو تدافع عنها. أما بوجناح فهو مناضل علني من أجل إسرائيل، فأي «انفتاح» هو الذي يملي علينا أن نحمله على الراحات، في بلد محمد البراهمي وشكري بلعيد؟
لسنا طبعاً في معرض إعطاء الدروس لأحد. لسنا، على وجه الخصوص، في موقع المزايدة على أصدقائنا ورفاقنا وأهلنا في هذا البلد الذي يشكّل أحد الحصون الأخيرة لحماية المشروع العربي النهضوي، العصري، المغاير، المنفتح، التعددي، العقلاني. حين ارتكبت «الجامعة العربية» تحت أمرة مملكة الانحطاط فعلتها المشينة، مصنّفة حزب الله كمنظّمة ارهابيّة، كانت تونس الدولة العربيّة الوحيدة التي نزل فيه الناس إلى الشارع، رافضين قراراً مزوّراً ضدّ حركة التاريخ. والذين نزلوا إلى الشارع يومذاك، كانوا في معظمهم تقدميين وتقدميّات، علمانيّين وعلمانيّات، يؤمنون بمجتمعات عربيّة حديثة وديمقراطيّة وعادلة. وطريق التقدّم والعدالة، كما يعرفون ويعرفن جيّداً، تمرّ في تحرير فلسطين! هذا لم يخفَ على «الاتحاد التونسي للشغل» الذي أصدر، بشرعيته الشعبيّة والتاريخيّة، بياناً مجلجلاً يطالب فيه بإلغاء عرض بوجناح.
لسنا في موقع المزايدة. لكن «قضيّة بوجناح» تشكّل منعطفاً في معركة مصيريّة. المواجهة هنا هي ضدّ محاولات استدراجنا إلى ثقافة الاستسلام. وإذا جاء الكوميدي الصهيوني إلى قرطاج، فستكون تلك اشارة لا تخطئ إلى ما تخبئه لنا مرحلة «ما بعد الربيع العربي». لم نحقّق العدالة والديمقراطيّة، لم نُحرِز التعددية والحريّة، لكننا بعنا روحنا للشيطان، وفتّتنا مجتمعاتنا، وسلّمنا أمتنا المنهارة لإسرائيل. الطاغية بن علي لم يكن ليجرؤ على ذلك. كلا، لا يمكن أن يكون كل ما حصدناه هو التطبيع الثقافي!