عزيزي الشاعر بدر شاكر السياب،في مناسبة ميلادك التسعين، تذكّرتُ شيئاً أردتُ أن أخبرك به. أنت تعرف كيف أننا في العراق نطلقُ أسماءً على الأجيال الشعرية؟ مثلاً أنت والشاعرة نازك الملائكة من جيل الروّاد، وبعد ذلك جيل ما بعد الروّاد ثم جيل الستينات والسبعينات. ولأن جيلي (الثمانينات) كان يُسمّى بجيل الحرب، تصوّرتُ بأن الجيل الذي بعده سيُسمّى بجيل ما بعد الحرب.

لكن الحرب لم تنتهِ، ولذلك، تصوّر يا عزيزي، بأن الأجيال التي بعدي كلّها حتى الآن يمكن أن تُسمّى بـ «جيل الحرب». ما كنتُ أريد أن أقلقُ نومتَك المسالمة يا شاعرنا بهذه الأخبار الغريبة، لكن أنت تفهمنا وتفهم مثلاً معنى أن نبتعدَ عن البلد حتى نصبحَ أقرب، ونرى الشمسَ في مكان آخر لنتأكّد بأنها نفسها ولكن نردّدُ كلماتِك: «الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام/ حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق».
دعني أيضاً في هذه المناسبة أشكرك لأنك أحببتَ الشعرَ حد منحَه الحريةَ ولو بقدرٍ ما، فنحنُ لا يمكن أن نحب شيئاً ونقيّدهُ. دعني أقولُ لكَ شيئاً آخر: حينما رحلتَ عن عالمنا، ظلَّ عدد من المعنيين بالشعر في العالم العربي يتحدثون عن شرعية أو عدم شرعية كسر «قوانين» الشعر العمودي ومن ثم شرعية أو عدم شرعية كسر الشعر الحر نحو ما يُسمى بقصيدة النثر. بالمناسبة، أنا لا أحب تسمية «قصيدة النثر» فبرأيي، إما هي «قصيدة» وإما «نثر»، لكن ليس هذا هو الموضوع. ما أردتُ الإشارة إليه أن التصوّر القائم لحد اليوم هو أن الشعر العربي كان عمودياً أولاً، وبذلك توجّبَ لما جاء بعده أن يقدم «تأشيرة دخول» إلى عالم الأدب وحتى بعد منح التأشيرة قوبل الشعر غير العمودي (وحتى غير الحر) بنظرات استهجان أو تساؤل أو دفاع (عن تهمة). الأمر الذي فاتنا جميعاً هو حقيقة كتابة الشعر السومري قبل فترة الشعر العمودي، بل قبل كل كتابة أخرى على وجه الأرض.
إذا قرأنا الشعر السومري، سنكتشف حقيقة في غاية الإمتاع هي أن الشعر العراقي ما بعد الفترة «العمودية»، ينتمي إلى الشعر السومري بامتياز أي انه لم يخرج عن مساره الأصلي، إنما الشعر العمودي هو الخروج الوحيد عن ذاك المسار. هذه مفارقة انتبهت إليها وأنا أحاول تلمس مواصفات الشعر العراقي المعاصر، وأنا أقرأ نماذج شعرية منذ جيلك إلى الآن. كان الغرض الأصلي اختيار عدد محدّد من النماذج الشعرية العراقية لنشرها في أنثولوجيا وهي مهمة محببّة ومكروهة في الوقت نفسه؛ إذ من الصعب جداً التحدد بعدد معيّن من القصائد في بلد مثل العراق الذي إذا رميت فيه حجراً، فإن الاحتمال الأكبر هو سقوط الحجر على رأس شاعر. المهم أني أرى أن الشعر العراقي المعاصر هو امتداد لروحية الشعر السومري أكثر مما هو امتداد للشعر العمودي. بكلمة أخرى، جينات الشعر العراقي سومريّة بامتياز ومَن يتفحص ثمار الشعر العراقي المعاصر سيعرف جذور شجرتها الأصلية.
أخيراً، دعني أخبرك بما يسرّك يا شاعرنا الكبير: عراقنا اليوم فيه شعراء شباب رائعون فعلاً وقصائدهم لن تخيّب ظنك بالشعر العراقي المتميز دائماً. إذن أطمئنك بأن جمرة الشعر ستبقى مضيئة (وسط الخراب أو بسببهِ أو برغمهِ) على يد أحفاد وحفيدات السيّاب والملائكة.

* شاعرة عراقية مقيمة في أميركا