في نصوص العراقي محمود عوّاد، ثمة انحيازٌ لقسوة المفردة واستخدامها وقدرتها على إحياء روح الدهشة الحقيقيَّة لدى القارئ. في مجموعته الجديدة «أكزيما» (دار مخطوطات)، يجتاح عوّاد بمفردته العالم السرّي للكلمة، من دون أن يخجلَ من القسوة التي يوجد لها شبيهٌ في عالمنا الحقيقي. يطرقُ الأبواب الخفيَّة التي لا تتراءى لنا بينما هي جليَّةٌ بالنسبة له، يبصرها من خلال الكلمةِ/ اللَّكمة: «الجنائزُ جيوبُ المدن/ المدينة التي ليست بحوزتها على الأقلّ عشر سفرات للمقبرة في اليوم/ لا تمتلك جيباً».لا تخفي النصوصُ آثار الصدمة التي ستخلّفها في ذهن القارئ، من خلال استخدام مفرداتٍ ليست مألوفة في النص الشعري، مثل الذبح، وقطع الرؤوس، وتنكح... مفردات تغدو شعريَّة بلمسةٍ كتابيَّة أو بتغييرٍ أماكنها في الحياة اليومية. لا شكّ أنّ ما يحدث حول العالم من أزمات تلقى الصدى الشديد عند الشاعر، الذي يقوم بآليَّةٍ ما باستعراضها. اللاشعور يُملي الكتابةَ على البياض، اللاشعور بما يحويه من صورٍ ومشاهدَ حياتيَّة تنقرُ بحساسيتها الشديدة، حزناً أو فرحاً، غضباً أو استرخاءً، على ما هو عيانيّ في الرّاهن، واستذكار ما كانَ، والتنبؤ بما سيكون.

أحياناً تغدو المباشرة في النص شيئاً إيجابيَّاً يفتح الآفاق لرؤية الكاتب. في مجموعة «أكزيما»، ثمة مباشرة محبَّذة بالنسبة إلى القارئ الذي يعيش في هذا القرن ويرى كمّ الخراب الحاصل في المحيط، كما أنّ الحكمة تنمو من داخل العبثيّة والمباشَرَة: «فالشاعر يحلق لحيته بنسيان قصائده». تدل هذه العبارة على الإيجاز الذي لجأ إليه الشاعر في مقاطع متعددة من الكتاب، تفادياً للوقوع في فخّ ثرثرة النص: «تحسّباً للقصفِ المفاجئ، أُعلّق وردة في سقف الغرفة وأنام، لأسبق الأصدقاء». كذلك البساطة، كعنصرٍ شعريّ فاعل، تضعُ القصيدةَ وجهاً لوجه مع اليومي، متخفّفة من الموعظة والنصح. هكذا تغدو القصيدةُ شِباكَاً والشاعر صيَّاداً في مياه المعنى من خلال تلك البساطة التي لا تميلُ إلى السذاجةِ في الطّرح، إنّما إلى سرد ما يودّ الشاعر أن يقوله بشكلٍ مباشر: «كلّما قطعوا رأساً، توسّعت عين السمكة التي على الحائط».
على مدار السنواتٍ الخمس الماضية، لم يكد أيّ منتوجٍ شعري أو نثري أو روائي عربي يخلو من آثار ما يمكن أن نصطلح عليه بـ «الحمّى الحربيَّة» التي التصقت بأجسادنا وأبت المغادرة، إذ يأتي فعل الكتابة ليخفِّفَ ولو قليلاً من وطأة ما تشهده البلاد من حروب. لكن في «أكزيما»، ثمّة غرائبيَّة في الطّرح، طرح الحرب كموضوع وبنية للنص.

مباشرة محبَّذة للقارئ الذي يرى كمّ الخراب في المحيط
بشكلٍ متأرجحٍ بين الخفاءِ تارةً والوضوح والمباشرة طوراً، يأتي النصّ لدى عوّاد دالَّاً على مفردة الحرب كعنصرٍ شعري: «الحربُ خراجةٌ أيروتيكية/ ننفخ أجسادنا وننام/ عندما يُطعن أحدنا/ ينفجر/ فينتبه البقية».
ألفاظ ومفردات الحرب المتوافرة في النصوص، وكل ما له دلالةٌ على آثار الحرب كمرضٍ يعاني منه الإنسان الحديث، بالإضافة إلى الخيال الواسع، كلها عناصر تجعل النصّ فاتحةً للتفكّر في أشياء تبدو لوهلَةٍ غير منطقيَّة. لكن لمجرّد التأمّل سنكتشف أنها أمور طبيعيّة في كينونة الشاعر المختلفة منطقاً وتفكيراً وخيالاً. إذ لا غرابة في ذلك، خصوصاً عندما تغذي الكتابةُ خيال القارئ، وتمدّ شرايينه بدمٍ غير الدم الذي يتدفّق حقيقةً. في «أكزيما»، ثمة شيءٌ كانَ يحترق أمام أعين الشاعر المتعدِّدة أثناء التدوين وتحويل الشعور إلى كلامْ. مجرّد التخمين لا يكفي، إنّها الكتابةُ التي تُطلِقُ سهامها مباشرةً نحو الهدف الذي هو الخيالُ وتنميته - كمهمّةٍ سيكولوجيَّة شاقَّة- مُضافةً إلى مهام الكتابة المتعدّدة: «مؤسسة السكاكين لو حدث وتكوّنت في المستقبل، كيف سيُنتخَب رئيسها؟!، من سيتولّى حمايتها؟ ما هو شكل باجات موظّفيها؟!، ممن يتسلمون رواتبهم؟!، في حال إيفادهم إلى أي مكانٍ سيذهبون؟».