الأب جورج مسّوحتصدّى صادق جلال العظم في كتابه الأساس «نقد الفكر الدينيّ» (دار الطليعة، بيروت، 1969) للأسس الدينيّة التي تقوم عليها الذهنيّة الغيبيّة والإيمان بالأساطير والاتّكال على الله والأنبياء والقدّيسين. واعتبر أنّ الدين سلاح فعال في يد القوى التي تريد السيطرة على الجماهير عبر ثقافة التجهيل والترويج للخرافات والخوارق.

يشير العظم في مقدّمة كتابه إلى أنّ نقده للدين لا يهتمّ بالناحية الروحيّة والخبرة الشخصيّة للإنسان، بل يهتمّ بالناحية العقديّة والتشريعيّة والشعائريّة والمؤسّسات التي تنطق باسمه. ويعتبر أنّ المنهج الدينيّ في التفكير يتناقض والمنهج العلميّ القائم على الملاحظة والاستدلال، كما أنّ العلم لا يعترف بوجود نصوص مقدّسة لا تخضع للنقد الموضوعيّ. أمّا فكرة التوفيق بين الدين والعلم فـ«ليست سوى أسطورة».
من أبرز النقاط التي تناولها هي مسألة المصالحة ما بين الدين والاكتشافات العلميّة الحديثة، فاعتبرها محاولات مزيّفة. حين يعتبر المؤمنون نصّهم الدينيّ نصاً منزّهاً ومعصوماً، فإنّهم سيرفضون حتماً أيّ اكتشافات علميّة قد تتناقض وما يقوله النصّ المقدّس. وأعطى مثالاً على ذلك نشأة الكون وخلق الإنسان. كما رفض فكرة «الإعجاز العلميّ في القرآن»، معتبراً أنّها محاولة يائسة للدفاع عن الدين عبر طمس معالم النزاع ما بين الدين والعلم.
وفي إشارة إلى الشيخ محمّد عبده (1849 ـ 1905)، ينتقد العظم الإصرار لدى بعضهم على وجود تناقض أساسيّ بين المسيحيّة والعلم الحديث وإنكارهم إنكاراً شديداً لوجود مثل هذا التناقض والنزاع بين الإسلام والعلم. في المقابل، نرى أحد المفكّرين المسيحيّين يدّعي، على طريقة المسلمين، الانسجام التامّ ما بين المسيحيّة والعلم. فالعظم يقول في هذا الصدد: «يتلخّص هذا المنهج في التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث باستخراج كل العلوم الحديثة ونظريّاتها ومناهجها من آيات القرآن. إنّها عمليّة إقحام تعسّفي وسخيف لكلّ صغيرة وكبيرة في العلم الحديث داخل آيات القرآن، ومن ثمّ الزعم على أنّ القرآن كان يحتوي منذ البداية على العلم برمّته».
لا يوفّر العظم في نقده للدين الأنظمةَ العربيّة كلّها، «الرجعيّة» و«الثوريّة التحرّريّة» على السواء، حيث تسخّر هذه الأنظمة المؤسّسات الدينيّة التابعة لها من أجل خدمة مصالح النظام، فيقول: «نجد أنّ كلّ نظام حكم عربيّ، مهما كان لونه، لا تنقصه المؤسّسات الإسلاميّة المحترمة المستعدّة للإفتاء بأنّ سياسته منسجمة انسجاماً تاماً مع الإسلام ولا تتعارض معه في شيء».
قد لا يرضينا انتقاد العظم للعاملين في «الحوار الإسلاميّ المسيحيّ»، وبخاصّة حين يحاكم النيّات التي تنطلق منها الشخصيّات اللبنانيّة البارزة في الحوار. غير أنّنا نقف معه في قوله: «ينبغي النظر إلى المعتقد الدينيّ على أنّه مسألة محض شخصيّة وذاتيّة متروكة لاختيار الفرد وفقاً لمزاجه واقتناعاته. لذلك من الأصلح والأنسب أن يتمّ التفاهم والحوار بين اللبنانيّين على أساس علاقات المواطنة والمصلحة المشتركة بدلاً من أن يتمّ على أساس الانتماء الطائفيّ والتصنيف الدينيّ»؟
يندرج نقد صادق جلال العظم للدين ضمن سلسلة من المفكّرين تبدأ من مفكّري القرن التاسع عشر، فشبلي الشميل دعا إلى تبنّي دين العلم الذي هو بنظره حرب على الديانات القديمة، وفرح أنطون في الدعوة إلى الفصل بين السلطة الدينيّة والسلطة الزمنيّة. أمّا قوله عن رجال الدين الذين يستغلهم رؤساء دولهم لاستصدار الفتاوى المناسبة، فقاله الشيخ محمّد عبده في سلاطين الدولة العثمانيّة وتعيينهم للفقهاء الأجلاء في أعلى المراتب من أجل العمل على نشر الجهل الدينيّ في المجتمع وإخضاع الشعب للسلطة السياسيّة، «وهكذا أفسد الحكام الإسلام».
يبقى صادق جلال العظم على حقّ في نقده للدين، ما دامت أحوالنا الفكريّة على الصعيد الدينيّ في حال انحطاط. فانسياق الناس إلى الإيمان بالظواهر الدينيّة القائمة على الأساطير والغرائب والأوهام ورفض العقل والعلم لا يزال هو الأساس الذي يقوم عليه التطرّف الدينيّ والاستبداد السياسيّ والفتن المذهبيّة والطائفيّة المتنقلة. أمّا إلغاء الطائفيّة في لبنان ووجوب الانتقال إلى احترام الفرد وإقرار المواطنة فلا يزال حلماً بعيد المنال... سيبقى العظم على حقّ في نقده للدين، إلى أن يتمّ إثبات العكس.
لا بدّ، في الختام، من استعادة ما قاله المطران جورج خضر حين رفض إبعاد صادق جلال العظم عن لبنان، «لأنّ الحكومة صدّقت على أنّه عدوّ الله، وبالتالي عدوّ لبنان». فيقول خضر ردّاً على هذا الإبعاد ودفاعاً عن الحرّيّة، وبعد أن ينتقد الكتاب بقسوة: «صادق جلال العظم مصلوب على خشبة الحرّيّة. إذاً، نحن معه».