إنه معزول عن المدينة، وينام على أطرافها، كما لو أنه يراقبها من بعيد ولا يتجاوز خط التماس بينه وبينها. ينظر إلى زائريه من فوق، كما لو أنهم يصعدون إليه صعوداً. «معرض الكتاب العربي». الاسم فضفاض، شاعري. ومألوف وموسمي لأنه يتكرر. فلنقل إن مفردة «العربي» تمنحه طابعاً ملحمياً أيضاً. إنه حدث ثقافي. والثقافة، كمصطلح، تكتسب اسمها كحالة قابلة للتفاعل. الثقافة هي مكونات وخصائص، وهي أكثر من «برستيج» شخصي، يختصر بالطقوس والتقاليد التي تمنح صاحبها ترف اللقب. الثقافة للجميع والجميع صاحب ثقافة. وهذا مدخل ثقافي إلى «معرض الثقافة»، بطبيعة الحال غير مدخله العادي والحداثي، الذي يتمثل بالبوابات الزجاجية اللماعة، ورجال الاستقبال وسيداته الذين يوزعون ويوزعن الابتسامات بسخاءٍ شديد. لكننا نتحدث عن الزائرين. ومِن هنا، يسأل مهتمون بالمعرض: لمن هذه الكتب المكدسة في الداخل وما هي وظيفتها. تزيين المدينة؟ بيروت جميلة في أي حال. الكتب إضافة؟ لا. الكتاب ضرورة لا يفوقها ضرورة إلا القراء. ومِن هنا أيضاً يبدأ الذاهب إلى المعرض حساباته. مِن النقطة التي يقف عليها. لن يأخذ الباص، لا يوجد باصات.
سيارة الأجرة لا تذهب إلى هناك بسهولة. ستتركه على المدخل. كيف سينقل كتبه بعد المدخل. الكتب المكدّسة في الداخل، بأسعارها، التي سندقق فيها لاحقاً. المشي خيار جيد. فكرة رياضية وبيئية. لكن الطريق ليست طريقاً للمشاة. وبين وسط المدينة والبيال «خط تماس». طيب. الكتاب يجب أن يتجاوز أي «خط تماس»، وليس خط التماس الذي صنعته الحرب ويعرفه اللبنانيون. الكتاب يجب أن يتجاوز خطوط التماس الطبقية، بين القادمين من الضواحي والشوارع الداخلية لبيروت، وبين الموقع المتغطرس والمتعالي لمعرض الكتاب، قرب شبه جزيرة البيال.
بالنسبة إلى زائره، يبدأ المعرض من خارجه. الكتب في الداخل، مكدّسة وموضبة على نحوٍ يجعل عرضها لائقاً باسم مدينة الثقافة، والمستقبل، بيروت، خاصةً على «الواجهة البحرية». ولكن لم هذه الكتب في هذا البازار الأنيق؟ إنها للدور التي تبيعها أولاً. والدور تشتري كما تبيع. المتر بمئة دولار أميركي. في النهاية المعرض استثمار. والاستثمار بالدولار، خاصةً في البيال. النادي الثقافي العربي «يقبض» من دور النشر، وأهل الثقافة، والمحبّين الساعين للكسب، أو لنشر الثقافة. وبدوره، «يتحاسب» النادي الثقافي العربي، منظم المعرض «الكلاسيكي»، مع البيال.

«دار رياض الريس» تقدّم حسومات تصل إلى نصف سِعر الكتاب
هذه مسألة بين دور النشر وبين النادي الثقافي العربي والبيال. لا علاقة للمواطنين العاديين بهذا كله. ما يعنيهم هو الطريق الشاقة إلى البيال، وكلفة الباركينغ الفائضة عن المعقول. ولا وسائل نقل تصل إلى موقع المعرض الكائن قرب الواجهة البحرية لمدينة بيروت، مدينة «المستقبل»، ما يجعل المعرض بالنسبة إلى كثيرين ترفاً، أو مكاناً غير مقصود، طالما أنهم لا يصطدمون به، ويجدون أنّ كلفة الذهاب إليه أكثر مما يمكن أن تكون. وفق الناشرين، لطالما كان المكان سيئاً لجهة العرض. يجمعون على أن البيال مناسب لجهة الحجم. علينا أن نعترف أنّ الحجم مهم، وأن الحداثة ترافقت في أذهان كثيرين مع الضخامة. لكن للإنصاف، يتوجب التذكير أن المعرض كان يقوم سابقاً في «القاعة الزجاجية». أحياناً في صالة أخرى شبهتها إحدى الناشرات بـ «غرفة الجرذان». في قلب المدينة لكنه كان ضيقاً. البيال أكثر اتساعاً وأرحب وهذا ما يتفق الجميع عليه. لكن، ما فائدة أن يكون المعرض كبيراً والمدينة ضيقة. لمن كل هذه الكتب المكدّسة في الداخل؟
الكتب الغالية سعراً، والقابلة للبحث مضموناً، تستدعي بحثاً في حسابات الزائرين. هناك تفاوت بين الدور. ولا عروضات تُذكر. ليس هناك «تكسير أسعار» في معرض الكتاب. ذلك لا يلغي أن ثمة من يحاول، ومن يمنح الحدث طابعاً جامعاً يتجاوز «النادي الثقافي» التقليدي ورواده. «دار رياض الريس» مثلاً، ولمناسبة المعرض، تقول إنها تقدّم حسوماً تراوح بين ربع قيمة الكتاب وتصل إلى نصف السِعر. وهذا يسري طوال فترة المعرض، حتى في مكاتب الدار وليس فقط في جناحها في البيال. أما «الساقي»، فقد تقدّم حسومات «طفيفة»، كما يقول المسؤولون فيها. والكثير من الدور الأخرى، لا يقدّم شيئاً. يدفعون للمترجمين ولحقوق الترجمة، ولا يمكنهم تقديم الحسومات. لكن لا بأس، فوزارة الثقافة تقدّم دعماً هائلاً، طبعاً لم يصدّق أحد الجملة الأخيرة. وهي بالفعل مزحة. تكتفي الوزارة بإطلالتها البهية، وبرعايتها المعنوية للمعرض. تكتفي باسمها البرّاق: «وزارة الثقافة». الدعم؟ لماذا تقدم وزارة الثقافة دعماً لدور النشر أو للكتاب؟ لماذا كل هذا الترف؟ لا لوم على دور النشر الغارقة في مشاكلها أصلاً، وكذلك لا لوم على وزارة الثقافة اللبنانية، فميزانيتها لا تتجاوز الواحد في المئة من الميزانية العامة. وفي أوساط حكومية، ثمة من يشعر أنّ هذا الرقم نفسه «فضفاض». ثقافة؟ لماذا هذا الترف. الثقافة مؤجلة، وسائل النقل إلى المعرض مؤجلة، الدعم مؤجل. لكن سنحتفل بالكتب المصفوفة على الرفوف، وهي تتجول بين أيدي المتفرجين، الذين يفرطون في الفرجة، ولا تسمح لهم الإمكانات بالخروج بقدرٍ كافٍ من الكتب. وهذا ما يقوله كثيرون، من الزوار التقليديين، ومن الذين يغتنمون فرصة اكتشاف المعرض، كما لو أنها اكتشاف سنوي للثقافة. ويحيل هذا على نوعية الكتب، فهناك من يقصد دوراً محددة لديها سمعة معقولة، مثل «رياض الريّس»، «الآداب»، «نوفل» وغيرها، وهناك من يتجول في المعرض علّه يصطاد كتاباً ناجياً. نوعية الكتب بحاجة إلى بحثٍ طويل، والكتاب العربي نفسه في أزمة. في أي حال، هناك دور تحاول «ضبط» منشوراتها، وهناك دور تطبع «بالكيلو». ثمة زائرون لا يكترثون للبراند أو لدمغة الناشر. يذهبون للتسوق في مكانٍ يشبه التسوق. البيال. الصالة الكبيرة التي تستقبل الحدث الكبير، لأغراضٍ تجارية. ولا لوم على البيال وإدارته أيضاً. لا أحد يفعل شيئاً لوجه الله.