لم يَرُقِ «الوكالةَ الأمميةَ لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ــ الأونروا» التحقيقُ الذي نشرته «الأخبار» نهاية الشهر الماضي (31/5/2017)، تحت عنوان «محرقة» لوعي اللاجئ الفلسطيني: «إسرائيليّون» في «الأونروا»! كان هذا متوقّعاً. أن تُصدِر الوكالة بيان نفي أو إيضاح فهذا مِن حقّها أيضاً.
لكن ما لم يكن متوقّعاً، وخاصة مِن جهة تابعة للأمم المتّحدة أن يأتي بيانها خالياً مِن أيّ تفنيد واقعي أو حتّى محاولة تفنيد لما جاء في التحقيق، مكتفياً بالقول: «إنّ الاتهامات غير صحيحة». حسناً، ما دام ذلك كذلك، فلِمَ بادر حكم شهوان، وهو كبير المستشارين في المكتب التنفيذي للوكالة، إلى حذف مقطع الفيديو الذي أشارت إليه «الأخبار» في تحقيقها، مباشرة بعد النشر، وذلك بإلغاء قناته الخاصة التي كانت تحمل اسمه على موقع «يوتيوب»؟ وذلك الفيديو يظهر فيه شهوان وهو يحمل سلاحاً رشاشاً ويقف إلى جانب عسكريين من جيش الغزو الأميركي على العراق. لكن مِن سوء حظّه أننا كنّا قد حمّلنا هذا الفيديو، وأنّه، في ذلك الفضاء الإلكتروني، يصعب جدّاً إخفاء الأثر.
تقول الوكالة في بيانها: «يَعمل المقال على تحريف موقف الأونروا حيال الحياديّة وموقفها حيال التعليم في مدارس الأونروا». بداية، لم تكن «الأخبار» أولّ مَن تناول الموضوع، وقد أشارت في تحقيقها إلى هذا، إذ إنّ وكالة «الرأي» الحكوميّة في غزّة كانت قد نشرت (في آذار الماضي) تلك «الفضيحة» التي تتعلّق بتغيير المناهج التعليميّة، وذلك تحت عنوان: «بالوثائق... الأونروا تنوي طمس الثوابت وترسيخ وجود الاحتلال في مناهجها». ألم يجتمع المفوّض العام للوكالة، بعد ذلك، برئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله للبحث في هذا الشأن؟ ألم يجتمع أيضاً بوزير التربية والتعليم الفلسطيني، صبري صيدم، للبحث في الشأن عينه؟ ألم تصدر، قبل ذلك، تصريحات فلسطينيّة، حكوميّة وفصائليّة، تُعرب عن غضبها مِمّا بدا أن الوكالة بصدد الإقدام عليه؟
وبالنسبة إلى «مبدأ الحياديّة» (وخاصة لدى كبار المسؤولين في الوكالة)، لم يُنكر بيان الوكالة أنّ شهوان يحمل شهادة الماجستير في الأمن والدبلوماسيّة مِن «جامعة تل أبيب»... وأنّه خضع لبرنامج دراسي يُديره ضبّاط في جيش العدو الإسرائيلي وأجهزته الأمنيّة. هل تُنكر الوكالة علينا استنتاجنا، البديهي، بأنّ شهوان، بعد تخرّجه مِن هذا البرنامج الإسرائيلي يُصبح، تلقائيّاً، محلّ شبهة كاسرة لمعايير الحياديّة!
شهوان نفسه أراح الوكالة مِن عناء التعليق، إذ اعترف على صفحته الفيسبوكيّة بأنّ ما أوردته «الأخبار» في هذا الشأن (دراسته) صحيح، ثم جاءه سؤال مِن إحدى المعلّقات عنده: «أخ حكم كيف تبرّر دراستك في جامعة تل أبيب؟»، فردّ عليها حرفيّاً: «المئات مِن الفلسطينيين يلتحقون بجامعات في الداخل، وهذا البرنامج كان برنامجاً دولياً وليس إسرائيلياً». حسناً، لا بأس، أنت تلميذ لضبّاط جيش العدو وقادته الأمنيين في جامعتهم، هذه قراراتك الشخصيّة، ولكن لا تطلب منّا بعد هذا أن نراك «حياديّاً»... فضلاً عن إشادتك بعدم «عدائيتهم» و«تمييزهم»! (شهادتك بهذا المعنى حرفياً تزيّن موقع الجامعة الإلكتروني، وأشير إلى ذلك في التحقيق). كذلك أنت الذي لديك كامل الاستعداد لطرد موظف فلسطيني، مِن العاملين في الوكالة، لأنّه أعرب على مواقع التواصل الاجتماعي عن تعاطفه مع القضيّة الفلسطينية، أي قضيّته بصفته لاجئاً قبل كل شيء!
واللافت أنّ شهوان كان قد ضمّن مقطع الفيديو الخاص به، الذي يظهر فيه مع الجيش الأميركي، صوراً لابنه الصغير، كهديّة له. لم ينتبه ربّما إلى أنّ الأطفال ينبغي إبعادهم عن أجواء «العسكرة» و«تربية العنف» (كما يأتي دائماً في أدبيّات الأمم المتّحدة). ربّما يُقال هذا ابنه، وهو حرّ في تربيته، حسناً، لكن مِن حقّ الجميع أيضاً أن يعرفوا أنّ هذا الشخص مؤتمن على تنشئة آلاف الأطفال اللاجئين الفلسطينيين. فهؤلاء ليسوا أطفاله، ومِن حق الجميع أن يعرفوا أي خلفيّة ثقافيّة لهذا الشخص.
وفي ما خص ساندرا ميتشل، نائبة المفوّض العام للوكالة، ليست «الأخبار» هي مَن «تفبرك» أنّها محل شبهة. ألم تقرأ الوكالة بيان «القوى الوطنيّة والإسلاميّة في غزّة»؟ (نشرته «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» على موقعها الإلكتروني في 7 أيار 2017). وجاء في البيان: «هنا لا ننسى الدور المشبوه لنائبة المفوض العام (ميتشل) وحليفها حكم شهوان اللذين أصبحا، في نظر جميع سكان غزة، شخصيات غير مرغوب فيها في قطاعنا الحبيب». وقد دعا هذا البيان، في فقرة أخرى، وكالة «الأونروا» إلى «وقف مسلسل الاستدعاءات والخوف بحق موظفيها لتمارس عليهم الترهيب والخوف، وتجعلهم أسرى لتعليمات وتوجيهات ساندرا ميتشل وحكم شهوان وأسيادهم».
أما ميتشل (الأميركيّة)، والاتهامات التي لاقتها في العراق عندما كانت تعمل في بعثة الأمم المتحدة قبل سنوات، فمسألة يطول سردها، لكن على سبيل الإيجاز، ألم يتهم مستشار رئيس الحكومة العراقيّة السابق تلك البعثة بأنّها «تعمل لجهات أجنبيّة معادية للعراق»؟ ألم تُتهم ميتشل بأنها تلاعبت في نتائج الانتخابات العراقيّة، وذلك عندما رفض مسؤولون عراقيّون في «المفوّضيّة العليا للانتخابات» وجود ميتشل التي «تحاول أن تتحكّم بعمل المفوّضيّة وبنتائج الانتخابات بشكل سافر»؟ ليس عمل «الأخبار» تأكيد أو نفي هذه الاتهامات، ولكن أليس أقل مِن حق «الارتياب المشروع» هنا، خاصّة في مسألة «الحياد» و«النزاهة»... وقديماً قيل: «مَن وضع نفسه موضع الشبهة فلا يلومنّ مَن أساء الظن به».
تطلب الوكالة في بيانها مِن «الأخبار» أن تسحب التحقيق ومنشوراته على التواصل الاجتماعي كافة عن الإنترنت، ووقف تداول النسخة المطبوعة، وتقديم تأكيد خطي «بأنّكم قد امتثلتم للمطالب أعلاه». امتثلتم! ما هذه اللغة! هذه، بالحد الأدنى، لا تليق بوكالة أمميّة رصينة. عموماً، لسنا موظّفين عندكم، فسقفنا هو ما يمليه علينا واجبنا المهني، الذي نعرفه جيّداً، ثم تأدّبوا. لسنا نحن مَن نقبل بأيّ لغة فوقيّة معنا.
(الأخبار)