مولي ويسلنج *ترجمة أحمد شافعي
«8 ابريل 1995
عزيزي مستر كريدُن
أشكرك على رسالتك المؤرخة في الثامن عشر من مارس 1995. أول ما يلزمك لكي تكون كاتباً أن تتلقى تعليماً جيداً، وربما قدراً من المعرفة باللغات الكلاسيكية: اللاتينية واليونانية والعبرية، ودراسة لتاريخ الفلسفة، والأدب العالمي. والبقية سوف تأتي.

المخلص
تشيسواف ميووش»
كنت على مدار خمس سنوات أعمل لبعض الوقت لدى الشاعر الحاصل على نوبل في الأدب تشيسواف ميووش في منزله ببريكلي هيلز. كان ميووش في التاسعة والسبعين حينما بدأ يملي عليَّ بالبولندية والإنكليزية لأساعده في الردّ على ما يتلقاه من استفسارات ودعوات كان أغلب ردوده عليها هو الرفض بأرق نبرة ممكنة. غير أنني كنت كثيراً ما أنسخ له جوهرة كالرسالة السابقة.
كان الأتوبيس يقلني مرة في الأسبوع إلى 978 جريزلي بيك بولفار، لأجد ميووش يستقبلني لدى الباب، مصافحاً إياي، منحنياً انحناءة خفيفة، داعياً إياي إلى غرفة المكتب. وكان في ذلك الوقت قد اكتسب لازمة معينة: إذ كان حاجباه الكثيفان يرتفعان إلى أعلى وهو يتكلم. وكانت كارول زوجته الثانية الأميركية ـ وهي امرأة ظريفة فيها لمسة جنوبية ـ تأتيه بكأس فودكا. وأتناول أنا دفتري وأشرع في العمل، وبعد ساعات عديدة يقلني ميووش أو زوجته إلى البيت، فتكون تجربة بالغة اللطف، لا تخلو من توتر بسيط، حينما يتولى ميووش عجلة القيادة. وبرغم جلال المنظر ـ فقد كان ذلك غالباً ما يحدث بينما تغرب الشمس على خليج سان فرانسيسكو ـ إلا أنني كنت أقلق بعض الشيء من كوابح سيارته التي يعود طرازها إلى منتصف الثمانينيات، ومن العناوين التي سوف تتصدر الجرائد إن وقع حادث ما.
«أن تؤمن أنك عظيم. ثم تكتشف تدريجياً أنك لست بعظيم. هذا كبد كاف في حياة بشرية واحدة».
تشيسواف ميووش، كلب جانب الطريق
كان لميووش، وراء بيته القريب من الشارع، كوخ يؤجره لطلبة الدراسات العليا، ومنهم دارس علم الاجتماع تيد الذي وقعت في غرامه، فلما انتقل للسكن معي حلّت بدلاً منه صديقتي القديمة والمحامية المتدربة آن ماري. ولم يكن لأي منهما ميل إلى الشعر أو حافز على احترام مالك البيت الذي قال عنه جوزيف برودسكي إنه أحد أعظم الشعراء في زماننا، فكانت آن ماري تسميه «تشيزي ميتلوف» [رغيف اللحم الماسخ] بدلاً من اسمه البولندي «تشيسواف ميووش». ولكنها كانت منبهرة بالوسام الذهبي الموضوع على منضدة صغيرة بجوار الهاتف في غرفة المعيشة في بيته. وأثق أن كل زائر استخدم الهاتف قد قضى لحظة خرافية وهو يتحسس وجه ألفريد نوبل المحفور على الوسام ويرفع القلادة في النور. ولما ذهب ميووش إلى جامعة كارولينا الشمالية في تشابيل هيل ليقضي فيها عاماً ككاتب مقيم، ترك في عهدة تيد قطّه ونباتاته، والوسام أيضاً الذي بقي في موضعه، مجرد حلية وسط أكوام الكتب والورق. فميووش نفسه لم يكن منبهراً.
كان من بين مهامي أيضاً أن أفرز البريد وأفتحه وأجمع الرسائل المبعوثة من معجبي ميووش. وكنت أعجب من فتات الخبز الذي يضعه قراء ميووش البولنديون في رسائلهم إلى أن اتضح لي لاحقاً أنها بقايا خبز المناولة وقد قطعت رحلة طويلة عبر البريد الدولي. كان ميووش ملتزماً بتوقيع بطاقات خاوية لطالبي توقيعه وإرسال صوره لطالبيها. ولم يكن يرد على جميع الرسائل، لكن من بينها ما كان يثير خياله فينشأ تبادل للرسائل بينه وبين المرسل، كما حدث في حالة هذا الكاتب الناشئ، الذي يثب ذكاؤه وتوقه من الصفحة:
جيلين، جوانجزي 541001
بي آر الصين
14 أكتوبر 1993
عزيزي مستر ميلوش
... لعل إفراطي في قراءة الأدب والفلسفة الغربيين جعلني أبدو غريباً في بلدي. أنا الآن أعمل بجد على تحسين قدرتي على الكتابة بالإنكليزية، راجياً التعبير في يوم ما تعبيراً عميقاً عن فهمي للثقافة الصينية بإنكليزية رصينة.
أنا الذي أحلم منذ طفولتي أن أكون كاتباً، لا غاية لي أن أجيء إلى أميركا لدراسة الهندسة، ولكن لا بديل أمامي. فليس من السهل على أحد في الصين أن يغير مهنته، ومع ذلك فإنني لا أنوي أن أضيِّع تسع ساعات في مصنع كل يوم. وإنني أتمنى أن يتم قبولي في مدرسة أدبية لأدرس وليم فوكنر وقصصه عن مقاطعة يوكناباتاوفا.
لقد استمتعت بقراءة مقالة مقتطفة من «مسقط الرأس: بحثاً عن تعريف ذاتي». فهل من الممكن أن ترسل لي هذا الكتاب؟ ذلك أنه من المستحيل على شاب صيني عادي مثلي أن يحصل على أي من الروائع الأصلية. إنني أعلّم نفسي الإسبانية لأقرأ غارسيا ماركيز على سبيل المثال ولكنني لم أتمكن قط من الحصول على «مائة عام من العزلة».
مع أطيب تمنياتي
واي روي
احتفظت بنسخة من رسالة واي روي لأبحث عنه في ما بعد. هل أصبح الشاب الصيني الاستثنائي ابن مقاطعة جوانجزي الجبلية في أقصى جنوب الصين دارساً لفوكنر؟ لا أعرف. قد تكون الإجابة كامنة في مكتبة المخطوطات والكتب النادرة بجامعة ييل حيث يوجد أرشيف ميووش.
كانت المراسلات تسفر في بعض الأحيان عن نتائج غريبة كما في حالة قارئة شابة من اليابان في مطلع العشرينيات من عمرها. كان من الواضح أنها قرأت أعمال ميووش، ورسائلها كانت ناصعة، مليئة بالمشاعر والبصيرة، مكتوبة بإنكليزية مثالية. ثم حدث ذات يوم أن ظهرت الفتاة في جريزلي بيك بولفارد ودقت جرس باب الكوخ. كان ميووش وكارول يعيشان في كارولينا الشمالية في ذلك العام، وفتح تيد الباب. قدمت الشابة نفسها وقالت إنها جاءت لترى خطيبها موضحة أنها قطعت كل ذلك الطريق قادمة من اليابان لكي تتزوج ميووش. واتصل تيد بي وهو مذعور فاستطعنا الوصول إلى ابن لميووش مقيم في منطقة الخليج، وبعد ساعات عديدة من المفاوضات مع السفارة اليابانية ومع أسرة الفتاة في اليابان، وصلت سيارة مضت بالفتاة. لم تُتح لها قط الفرصة لتلقي نظرة على حبيبها. وبعد شهور قليلة وصل طرد منها. وطلب مني ميووش أن أفتحه وأصف له محتوياته. فوجدت كنزاً من الحلوى الملونة بألوان الباستيل، ملفوفة في ورق أنيق للغاية، وينبعث منها عطر رقيق.
كانت مكاره الشيخوخة حاضرة في ذهن الشاعر الذي كان في ذلك الوقت يترجم إلى الإنكليزية بالتعاون مع ليونارد ناثان قصائد لصديقة له من أيام وارسو هي الشاعرة آنا سوير (المعروفة أيضاً بـ سويشينسكا، 1909 ـ 1984). وقد كتبت سوير عما يحدث حينما تتدهور الأجسام وتعجز، فأعجب ميلوش بصراحتها النادرة وسط البولنديات من بنات جيلها. وكانت كتابته هو نفسه ابتداء من تلك الفترة حافلة بهذه النوعية من التأملات. «خانتهم أجسادهم، بعدما كانت ذات يوم جميلة جاهزة للرقص. غير أن في كل واحد قنديلَ وعيٍ مضرماً، ومن هنا العجب: أهذا أنا؟ مستحيل».
غير أن العالم صار يسهّل الأمور على الشاعر في طريقه. فمن بين المخصصات الممنوحة لحملة نوبل في جامعة كاليفورنيا ببيركلي ـ وكان فيها آنذاك خمسة عشر فائزاً وميووش هو الوحيد الذي كان يحمل نوبل في تخصص غير علمي ـ أن يكون لكل منهم موقف لسيارته مدى الحياة. كما كان ميووش يحظى بميزة الظفر بمائدة بمجرد دخوله إلى مطعم «شي بانيسيه» المزدحم دائماً. وكانت تلك جوائز خرافية في بيركلي، فهي أقرب إلى البساط السحري أو الطبق الذي لا تنفد منه العصيدة.
في خريف عام 1990 وصف لي ميووش على الهاتف كيف أصل إلى بيته بالأتوبيس وحذرني من امتلاء جدول الأتوبيس بـ «الفجوات». كنت أعرف أني ظفرت بدرّة الوظائف التي لا تستوجب التفرغ. وفي ما بين الرسائل كنت أدوّن بعضاً من رسائله لنفسي في دفاتر لم أزل أحتفظ بها، وهذا ما يجعلني قادرة على الرجوع إليها بعد مرور خمسة وعشرين عاماً. مرة نظر إليّ ميلوش وأنا أكتب وقال: «على فكرة، أنا أيضاً كنت أعسر ذات يوم، ولكنهم ضربوني حتى أنسوني ذلك». وعن جوزيف برودسكي قال: «إنه عبقري» وروبرت فروست إنه «رائع» و»المراثي» لشاعر النهضة جان كوتشانوفسكي إنها «لا بد أن توضع في مصاف الكلاسيكيات العالمية» وأحب ما قاله إلى قلبي أن «هذه قصائد بشعة»، (لكنني لا أستطيع أن أقول قصائد من التي كان يتكلم عنها).
قضى ميووش وكارول عام 1991-92 بعيداً عن البيت. فكنت أجمع البريد وأرسله إليه في تشابل هيل، وتيد كان مسؤولاً عن ريّ النباتات في البيت الرئيسي وتلبية احتياجات القط «تيني» العجوز الذي يظهر في أعماله مرة أو اثنتين، ممثلاً لنفسه أو لعالم الحيوان العنيف. ومن خلال لقاءاتنا الأسبوعية في وكر ميووش، أصبحت أنا وتيد ثنائياً لديه قط رمادي شأن «ملاك العالم الهرمين» في قصة جوجول الشهيرة. ولما رجع السيد ذو الإحدى وثمانين سنة إلى بيته في آخر الأمر لاحظ على الفور النباتات المحتضرة وصندوق فضلات تيني القذر، فاستاء بشدة، ومضى صاعداً الطريق الحجري إلى الكوخ حيث انطلق في توبيخ شديد، ثم إذا به في وقت لاحق من مساء اليوم نفسه يرجع ليعتذر لتيد اعتذاراً حاراً على نحو لم يكن يتيسّر إلا لميووش: بحاجبين يرتعشان وإطراقة رأس خفيفة.
بعد وفاة كارول بالسرطان عام 2002، كتب ميووش مرثية لها بعنوان «أورفيوس ويوريديس» (وترجمها بالتعاون مع روبرت هاس)، وكانت من أواخر قصائده قبل وفاته عام 2004 عن ثلاث وتسعين سنة.
تذكَّر قولها «أنت رجل طيب».
قولها الذي لم يصدقه تماماً.
فالشعراء الغنائيون ـ كما يعرف ـ
قلوبهم باردة.
هذا أقرب إلى وضع صحي:
أن لا يؤتى كمال الفن
إلا بهذا الثمن.
لم يكن غيرُ حبها يُدفئه
ويجعل منه إنساناً.
كان، معها، ينظر إلى نفسه
نظرة أخرى.
والآن لم يعد يمكن أن يخذلها
الآن وقد ماتت.
أشك أن كارول هي التي فكرت في تقديم هدية زواج لنا (صينية خشبية) وإرسال هدية أخرى عند ميلاد ابننا في فبراير 1996 بعد انتقالنا إلى أوريجون. ولكنني متأكدة أن ميووش هو الذي اختار الهدية الثانية التي وصلتنا في الكريسماس: «عالم بوه» لـ آيه آيه ميلني. كانت صفحة العنوان تحمل كلمات بخط الشاعر: «إلى نيكولاس ويزلنج جيربر، عسى أن تستمتع مثلما استمتعت أنا. تشيسواف ميووش. 4 ديسمبر 1996». كان ميووش في الخامسة عشرة ويعيش في ريف ليتوانيا حينما صدر هذا الكتاب للمرة الأولى عام 1926. لكن متى استمتع به بالضبط؟ هل وقع في غرام الخنزير والبومة وبوه أثناء دراسته للإنكليزية في مراهقته، أم بعد ذلك بكثير، وهو في المنفى يقرأ القصص لولديه؟ أهملت قراءة الكتاب لأبنائي. فقد كان الدب الصغير ضئيل العقل لا يضاهي الصبي البريطاني الساحر الحديث الذي ينقذ العالم المرة تلو الأخرى. والآن أندم أني ضيعت فرصة السكنى لبعض الوقت في غابة الأكرات المائة حيث المخاوف جزء عادي من الحياة لكنها لا تمكث حتى تزورنا في أحلامنا مثل مخاوف أشرار هاري بوتر.
فكر ميووش في «بوه» في السنة التي ولد فيها ابني. ففي ابريل سنة 1996 كتب عن «خبر وفاة كرستوفر روبين ميلني وقد بلغ الخامسة والسبعين بعدما خلَّده أبوه في الكتاب في شخصية كرستوفر روبين». كتب ميووش في «كلب جانب الطريق» تحت عنوان «كرستوفر روبين» يقول:
«تقول البومة إن الزمن يبدأ بعد حديقتنا بالضبط، وإنه بئر رهيب عميق الغور. إن وقعت فيه، تظل تقع وتقع، بسرعة رهيبة، ولا يعرف أحد ما الذي سوف يحدث لك بعد ذلك. كان ينتابني شيء من القلق على وقوع كرستوفر روبن فيه، لكنه كان يرجع بين الحين والآخر فأسأله عن البئر. فكان يقول: دب عجوز. أقع فيه فأتغير وأنا أقع. ساقاي طالتا، وصرت كبيراً، ارتديت بنطالاً يصل إلى الأرض، ونمت لي لحية رمادية، وكبرت، وشخت، وانحنى عودي، وسرت متكئاً على عصا، ومت. لعلي قبل ذلك لم أكن غير حلم، لعل كل شيء لم يكن إلا حلماً. لم يكن من شيء حقيقي إلا أنت، والدب العجوز، ومتعتنا معاً. والآن لن أذهب إلى أي مكان، حتى لو دعيت إلى وجبة سريعة بعد الظهر».
يبدأ ميووش تأمله بصوت الدب العجوز في بيت بوه. وبعد ذلك يتكلم الولد الميت، كرستوفر روبين نفسه، وهو الشاعر، يرجع فيطمئننا أن الشيخوخة والموت قد لا يكونان إلا حلماً، والميت هو على أية حال لا يذهب إلى أي مكان. ولعلنا لهذا نتشبث في ما يقوله شعراؤنا ونستميت عليه.

* نشر النص في بريكماج
http://brickmag.com/mi%C5%82osz-and-his-fans