لا يكاد المشتغلون في التربية والتعليم ينامون على تقنيّة رقميّة حتى يستفيقوا في اليوم الثاني على أخرى. بالأمس، كانت الألواح الذكية أو التفاعلية هي الحل السحري الذي يحقق التفاعل مع التلميذ. اليوم، خفت نجم هذه الألواح لمصلحة حلول أخرى مثل «الصف المعكوس»، أو«الكتاب الرقمي»، أو التقصي في العالم الافتراضي الثلاثي الأبعاد، وغداً يوم آخر وتقنيّة جديدة.
لا خلاف بين التربويين على أهميّة مواكبة التعليم للتطورات التكنولوجيّة، ولا هم يبخسون من إسهاماتها في التعليم، لكن بالرغم من ذلك، لا يجب أن يتمحور النقاش حول ما الجديد؟ بل ما هي الحاجة وما هي المستلزمات؟ المهمة الأسهل هي شراء التجهيزات والتطبيقات الرقميّة، لكن الأصعب هو دمجها المتدرج في العملية التعليميّة بالشكل الصحيح.
في عام 2012، وفي ظل استعار الحملة الترويجيّة للألواح التفاعلية في لبنان، رغم كلفتها المرتفعة نسبياً، ومستلزماتها التربوية التي لم تكن متوافرة في حينها، اخترت أن تكون هذه التكنولوجيا موضوعاً لدراستي في ماستر التربية في جامعة القديس يوسف.

عدم وجود أي دليل تجريبي أو حسّي يربط بين استعمال اللوح التفاعلي وارتفاع التحصيل

واللوح الذكي هو لوح إلكتروني يتم توصيله مع جهاز العرض الـ (PROJECTOR) ومع جهاز الكمبيوتر (PC)، لنقل محتوى الشاشة بشكل مكبر، ما يتيح تحويل المساحة الخاصة بالمستخدم الى بيئة تفاعلية تعليمية وتدريبية. وتتيح هذه التقنية حفظ كل عمل في ملف بالإمكان طباعته أو إرساله عبر البريد الإلكتروني أو وضعه في صفحة ما على الموقع الالكتروني.
في أثناء الإعداد للدراسة، كانت تتصدّر هذه الألواح التفاعليّة قائمة التقنيّات التربويّة الأكثر مبيعاً في قطاع التعليم، إذ كانت 80% من صفوف المملكة المتّحدة، و50% من صفوف الولايات المتّحدة، و18% من الصفّوف على مستوى العالم مجهّزة بهذه الألواح التفاعليّة.
أمّا في لبنان، فقد جهّزت وزارة التربية المدارس الرسميّة في ذلك الوقت بنحو 170 لوحاً تفاعلياً، كما جُهّزت المدارس الخاصّة بما يزيد عن 2000 لوح تفاعلي حتى نهاية عام 2013.
كم كانت دهشتي كبيرة في ذلك الحين عندما بدأت بمطالعة الأدبيات التربويّة العالمية التي كانت بمعظمها تشير إلى الأثر المحدود لتكنولوجيا الألواح التفاعلية، فعلى سبيل المثال، يلفت سميث وزملاؤه (Smith et al, 2005)، باحثون تربويون بريطانيون، إلى عدم وجود أي دليل تجريبي أو حسّي يربط بين استعمال اللوح التفاعلي وارتفاع التحصيل، وأنّه لا وجود لفروق على مستوى اختبارات التحصيل الوطنيّة البريطانيّة في مادّتي الرياضيّات والعلوم بين المدارس التي اعتمدت الألواح التفاعليّة وتلك التي لم تعتمدها.
وهذا ما اتّفق مع نتائج الدراسة التجريبيّة التي قمنا بتنفيذها في لبنان على 110 تلامذة في صف السابع أساسي في مادة العلوم الطبيعيّة، والتي امتدت لفصل دراسي كامل.
وعلى طرف نقيض، يشير الباحث التربوي الأميركي روبرت مارزانو إلى تقدّم تلامذة الصفّ التفاعلي بنحو 17 نقطة على تلامذة الصفّ التجريبي وذلك في دراسة أجريت على 1716 تلميذاً، وفي 50 مدرسة من مدارس الولايات المتّحدة الأميركيّة. ويشير باحثون تربويون آخرون إلى أنّ استعمال اللوح التفاعلي وحده لا يقود بالضرورة إلى التعليم الأحسن. ويصرّحون بأنّه ليس واضحاً حتى الآن كيف يمكن للّوح التفاعلي أن يؤثّر في النواتج التعليميّة أو في تطوير المفاهيم.
إذاً، فمراجعة الدراسات الأجنبيّة تكشف نجاحات وإخفاقات للألواح التفاعليّة، وصعوبات لتوظيفها في العمليّة التعليميّة، ما يعني أنّ باب النقاش لا يزال مفتوحاً والفائدة العلمية لم تحسم بعد.
لكن حتى لو حُسم دور اللوح التفاعلي في رفع التحصيل وتحسين التفكير، فإنّه لا يجوز أن نسقط هذه النتائج على بيئتنا التربويّة اللبنانية المختلفة جملة وتفصيلاً عن بيئة المدارس الأجنبية، ولا يجوز أن نعتمد عشوائياً بعض التقنيّات الحديثة من دون أن نتحقّق من فعّاليّتها في عمليّة التعليم، وخصوصاً أنّنا نعاني من مشاكل تعليمية معقّدة ليس أقلها تراجع مستوى تلامذتنا التعليمي في مادة العلوم وفقاً لاختبارات "التيمس" العالميّة (Timss 2011)، حيث حلّ تلامذة الصفّ الثامن في المرتبة 39 عالمياً من أصل 46 دولة مشاركة.
وبعد مرور سنوات من الاستثمار في هذه التكنولوجيا في لبنان، لم يصدر حتى اللحظة أي دراسة تقويمية رسمية حولها وحول جدوى الاستثمار فيها (على حدّ علمنا)، وآثارها على العملية التعليمية، ما خلا بعد الأرقام التي تنشرها الشركات المسوّقة والمروّجة للألواح التفاعليّة، والتي تفتقر إلى الموضوعيّة، وخصوصاً عندما تسوّق كل منتج جديد على أنّه الحلّ السحري لكلّ المشاكلّ التعليميّة والتربويّة التي تعانيها مدارسنا.

*طالب دكتوراه في جامعة القديس يوسف