يمكن بسهولة وصف 2015 وما تلاه بـ «الكارثي» على صعيد الإعلام في لبنان، بعدما هزّت الأزمة الاقتصادية عرشه بعد «الربيع العربي» إثر تراجع العائدات في سوق الإعلان، وشحّ المال السياسي، وتأثّر الإعلام الخليجي بانخفاض أسعار النفط. الأزمة التي طالت الصحف وصلت قبلاً إلى الإعلام المرئي الذي اتحد في ظاهرة نادرة قبيل عامين، في محاولة لشحذ الدعم الحكومي اللازم. فخرجت مثلاً فكرة دفع المواطن دولاراً واحداً مقابل مشاهدة القنوات المحلية، وشهدنا أيضاً الأزمة التي دارت بين أصحاب الكابلات والقنوات على خلفية المطالبة بحقوق الأخيرة في البث، واقتراح جمعها في باقة واحدة مدفوعة. طبعاً، كل هذه الاقتراحات ذهبت أدراج الريح، ومعها أبرز مشاريع الانتقال إلى البث الرقمي الذي كان يُفترض أن ينتهي في 2013، ويتيح فرصاً أمام القنوات في الربح والمردود الإعلاني، إضافة إلى خلق تعدّدية إعلامية من خلال الكمّ الهائل من التردّدات عليه. وفي الوقت الذي اتجه فيه العالم إلى زيادة الاستثمار والتسويق عبر المنصات الاجتماعية والرقمية، وتقديم خدمات منوّعة للمتصفحين/ات، يبدو هذا الاتجاه متعرجاً في لبنان، مع دخول هذه الشاشات أخيراً بثقلها إلى هذه المنصات، عبر خدمة البث المباشر، عبر مواقعها الإلكترونية أو عبر السوشال ميديا، لا سيّما فايسبوك.
بدأت هذه الخدمة تنشط مع طرح الموقع الأزرق للـ live streaming، وراحت وجوه إعلامية وقنوات تستخدمها على نحو تجريبي، ولوقت قصير نسبياً، ناقلة بالصورة والصوت ما يحدث على الشاشة، أو خلال بداية برنامج ما. علماً بأنّ اعتماد هذه الخاصة زاد خلال رمضان العام الماضي، بغية الترويج للبرامج وللأعمال الدرامية مع اشتداد حدّة المنافسة.
اليوم، بتنا نشهد اختلافاً في طريقة الاستخدام، إذ بدت الوجهة مركزة أكثر على هذه المنصات، من نقل مباشر للبرامج ونشرات الأخبار، ما يجري في كواليس بعض البرامج في فترات الاستراحة الإعلانية، إما على فايسبوك أو إنستغرام. حتى أن بعض هذه التلفزيونات أضحت تنتج مواد بصرية سريعة تواكب العصر الرقمي، فهل تمهّد هذه الخدمة لانتهاء عصر التلفزيون؟ أم أنّها حالياً مجرّد أداة مساعدة للترويج للمحتوى المقدّم؟ ومع غياب الاستراتيجية لهذا الاستخدام الذي ينقصه كما سنرى المردود المادي، هل سنصبح أمام أزمة أخرى، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الأساسية التي تعصف بالقنوات؟
سلسلة أسئلة وإشكاليات، تطرح نفسها اليوم، مع تراجع دور التلفزيون الذي لم تتضح بعد المدّة الزمنية لانطفائه، ومع لجوء المشاهدين للمنصات الافتراضية، خصوصاً الشباب الذين يبحثون عن خدمات وطرق أكثر راحة وسرعة وتخصصية.
جولة على بعض رؤساء مجالس إدارة المحطات اللبنانية والمولجين بالشؤون الإلكترونية، تكشف لنا مدى صعوبة الاستثمار المادي اليوم في هذا العالم. كما أنّه من الصعب الاتكاء على هذه المنصات بسبب خدمة الإنترنت الرديئة والباهظة الثمن في لبنان. فيظهر في النهاية بؤس آخر يخفي أي نقطة أمل في خروج هذه القنوات من أزمتها.

ترى القنوات المحلية أنّ استخدام مواقع التواصل سينحصر بالترويج وتأمين المستخدمين الدائمين


رئيس مجلس إدارة nbn، قاسم سويد، يصف لـ «الأخبار» ما يجري بأنّه «مرحلة انتقالية»، بين الميديا التقليدية والجديدة، ويؤكد بكل شفافية أنّ الحل يكمن في «التشفير وبيع المحتوى»، ما يعدّ صعباً في لبنان، لا سيّما مع ذهاب شركات الإعلان الى العالم الرقمي. وبالتالي، باتت هذه القنوات مهدّدة أكثر اليوم بشأن تأمين عائداتها. يركّز سويد على ضرورة بلورة خريطة مستقبلية للتلفزيونات في تعاملها مع المنصات الإلكترونية. nbn بدأت منذ فترة بتعزيز منصاتها على السوشال ميديا، إلى جانب النقل المباشر لبرامجها السياسية عبرها، بُعيد انتقالها إلى البث عبر التقنية العالية الدقة (HD)، تأكيداً على أهمية الصورة ونقائها في الدرجة الأولى، لتكون «صورة بتحكي»، كما يردف سويد.
يبدو رئيس مجلس إدراة «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، بيار الضاهر، متأثراً بما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي واستثمار في هذا المجال. «هذه التكنولوجيا باتت تحيط بنا، خصوصاً على هواتفنا النقالة وأجهزتنا الذكية». ويضيف: «نقتقد هذا الواقع في لبنان اليوم، نظراً إلى سوء خدمة الإنترنت، وضعف إمكانية الاستثمار الإلكتروني، في وقت يستحوذ فيه فايسبوك وغوغل على غالبية حصص الإعلانات في العالم». ولا يرى سبيلاً للإنقاذ، سوى بـ «انتقال القنوات إلى العالم الرقمي، مع تشريع حكومي لذلك».
أما «الجديد»، فتحاول إرساء توازن بين الشاشة والإنترنت، على صعيد إنتاجها فيديوات سريعة وقصيرة ومقتضبة على طريقة خدمة AJ+ (التابعة لقناة «الجزيرة)، تحوي مواد اجتماعية وفنية وسياسية منوّعة. وتحاول القناة نقل هذه المواد إلى الشاشة بهدف تفعيل هذه الأخيرة. هذا «التبادل» إن صح التعبير، يُخبرنا عنه مدير الموقع الإلكتروني للمحطة رامي الأمين، الذي يرى أنّ المستخدم بات «يريد مادة سريعة غير مملة، تصل إليه بأقل من 40 ثانية، مع وصول أرقام أوقات التصفح للمستخدم الواحد إلى 20 ثانية فقط». ومع صعوبة تحقيق هذه الفيديوات القصيرة وتطبيقها على نشرات الأخبار، يسعى موقع «الجديد» اليوم، ومن خلال استثماره للسوشال ميديا، إلى بث أربعة فيديوات في اليوم الواحد على هذا النسق، على أن نشهد مع حلول رمضان بث حوالى 60 حلقة تم إنتاجها مسبقاً، تتعلّق مباشرة بمواضيع ونصائح حول الصوم والطب والطعام.
قبل أشهر، دشّنت mtv خدمة تقديم نشرة أخبارها المسائية بدقيقة واحدة عبر المنصات الاجتماعية. يلفت المدير التقني لموقعها الإلكتروني جورج صفير، إلى أنّ وضع قناة المرّ ثقلها على هذه السوشال ميديا يعود إلى تأمين «ترويج لبرامجها ومختلف ما تبثه هذه الشاشة». ومع غياب المقدرة على الاستحواذ على مردود مادي من خلال هذا البث المباشر، تتكل المحطة على دعوة المتصفحين/ات إلى متابعة البرمجة أو أي حدث عبر أخبارها العاجلة، ما «يساهم في زيادة نسب المشاهدة»، على حدّ قول صفير.
إذاً، تبدو جلجلة الإعلام المرئي في لبنان مستمرة، في ظلّ بحث القنوات عن أي مخرج تسد فيه عوزها الاقتصادي الحاد.
تعتمد هذه المؤسسات على مواقعها الإلكترونية لبث موادها، وللإفادة مادياً من الإعلانات. أما على السوشال ميديا، فينحصر دورها بالترويج للشاشة التقليدية، أو تأمين مستخدمين/ات دائمين. ورغم إنكار المسؤولين في القنوات لتشكيل الـ live streaming ومواقع التواصل الاجتماعي بديلاً من التلفزيون، مؤكدين أنّ دورها سيتمثّل بالمساعدة فقط، ستحسم السنوات المقبلة مسألة انتهاء الشاشة الصغيرة، خصوصاً مع انحصار المشاهدة عبرها بفئة عمرية محدّدة (المتقدمون في السن)، إلى جانب آخرين يلجأون إليها لمتابعة نشرات الأخبار فقط.




البثّ المباشر في الأوقات الصعبة

لخدمة البث المباشر فوائد أخرى غير الترويج وجذب المتابعين. في لبنان، لا يزال الإعلام والشعب متخندقين سياسياً ومذهبياً، فيما الفوضى على يد أصحاب الكابلات غير الشرعية. على خلفية بثها تقارير إخبارية معيّنة، تُهدّد «الجديد» بين الحين والآخر بقطع بثّها عن مناطق عدّة. لكن هذه المحطة لجأت إلى أسلوب بديل للوصول إلى الناس. في شباط (فبراير) الماضي حين تعرّضت لاعتداء وقُطع بثها، لجأت فوراً إلى خدمة البث المباشر، مستعينة أيضاً بالبث الأرضي التقليدي (Antennes). وقبل فترة، واجهت موقفاً مشابهاً. بمجرّد قطع بثها، ذكّرت «الجديد» المتابعين عبر خدمة الأخبار العاجلة بالدخول إلى بثّها الإلكتروني المباشر. أما فضائياً، فلعلّ أبرز القضايا إيلاماً محاصرة «المنار» التي أنزلتها «عربسات» و«نايل سات» عن قمرَيْهما الصناعيَيْن لأسباب سياسية واضحة. محاصرة «المنار» فضائياً، أثّرت عليها، غير أنّها سرعان ما دعت المتابعين إلى اللجوء إلى خدمة البث المباشر، إما على موقعها الإلكتروني أو على منصاتها الاجتماعية وأهمّها فايسبوك.




سلام الزعتري يهرب إلى الأمام

من المنتظر أن نشهد ولادة قناة Blue Cactus الإلكترونية في أيلول (سبتمبر)، على يد المخرج والمنتج ومقدّم البرامج اللبناني سلام الزعتري. يشرح لنا أنّ هذه القناة تضم قنوات عدّة متخصّصة، تتوجه إلى الداخل والعالم العربي. وتهدف إلى تقديم المعلومات بطريقة علمية تفاعلية وبالصوت والصورة، من ضمنها النقد الساخر. إذاً، يضع الزعتري ثقله في العالم الإلكتروني، ويرى أنّ المستقبل سيكون مرتبطاً بما يريد المشاهد متابعته، وفي الوقت الذي يناسبه، تماماً كالمبدأ الذي تعتمده منصات أجنبية عدّة، على رأسها «نتفليكس» الأميركية. وهذا ما يبرز في برنامجه bbchi عبر «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، فالتفاعل معه أعلى على المنصات الافتراضية مقاربة بالشاشة التقليدية.