هل تقضي الثورة الرقمية على الصحافة الورقية؟ هل ما زال هناك مكان للراديو؟ ماذا عن التلفزيون؟ أسئلة ملحّة تدور منذ فترة طويلة في الأوساط الإعلامية، من دون إجابات حاسمة. منذ سنوات، صارت مواقع التواصل الاجتماعي مصدراً أساسياً (وسريعاً) للمعلومات، قبل أن يصبح الهم الأساسي اليوم محاربة الأخبار الكاذبة المنتشرة عبرها.
المسألة أثّرت على دور وسائل الإعلام التقليدية. وبالنسبة إلى الجيل الجديد، تحوّلت السوشال ميديا إلى خياره الأوّل بدلاً من الشاشة الصغيرة. في دراسة نشرت في حزيران (يونيو) 2016، أوضح «معهد رويترز لدراسة الصحافة» أنّ 28 في المئة من الشباب بين 18 و24 عاماً يعتمدون على مواقع التواصل كمصادر أخبار، مقارنة بـ 24 في المئة يفضلون التلفزيون. الدراسة التي أجريت عبر YouGov وشملت 50 ألف شخص في 26 دولة، شددت على أنّ الموضوع لا يقتصر على الشباب، فـ 51 في المئة من الناس إجمالاً يفعلون الأمر نفسه، بسبب «استسهال الاستخدام الزائد للهواتف والأجهزة الذكية، وكثرة الخيارات وتنوّعها».
وأجرت الدراسة مقارنة بين عامي 2015 و2016، ليتبيّن أنّه في ألمانيا مثلاً زاد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأنباء بنسبة 1 في المئة (من 5 إلى 6%)، فيما سجّل الارتفاع في المملكة المتحدة نسبة 2 في المئة (من 6 إلى 8%)، وفي فرنسا 4 في المئة (من 5 إلى 9%)، والأمر نفسه بالنسبة إلى البرتغال (من 12 إلى 16%). وفي الدنمارك وأستراليا، رصد معهد «رويترز» ارتفاعاً بنسبة 6 في المئة، إذ تضاعفت النسبة في الأولى من 6 إلى 12 في المئة، وزادت في الثانية من 12 إلى 18 في المئة. أما في الولايات المتحدة، فتمثّلت الزيادة بنسبة 3 في المئة (من 11 إلى 14%)، بينما برزت أكبر الأرقام في البرازيل التي قفزت فيها النسبة من 10 إلى 18 في المئة.
أرقام تتوافق مع ما قاله كورت أبراهامسون، في مقال نشره في الأوّل من أيّار (مايو) 2017 في مجلة AdWeek. المدير التنفيذي لمنصة مشاركة المعلومات ShareThis، أكد أنّ نسب مشاهدة احتفال توزيع الأوسكار في شباط (فبراير) 2017 سجّلت أدنى مستوى لها خلال السنوات التسع الماضية (32.9 مليون دولار)، متراجعة بنسبة 4.4 في المئة مقارنة بالعام الماضي. حتى أنّ المباراة النهائية في دوري كرة القدم الأميركية (سوبر بول) مثلاً لم تحطّم أي أرقام قياسية، رغم كل العوامل المساعدة، أبرزها استعراض ليدي غاغا المذهل. ورجّح أبراهامسون أن تكون النسبة الأكبر من التراجع مرتبطة بالشباب والمراهقين الذين يزيد ابتعادهم عن التلفزيون مع الوقت. إذاً، مخطئٌ من يظن أنّ التغيير محصور بالأخبار، فيبدو أنّ مواقع التواصل الاجتماعي ترنو إلى أكثر من ذلك بكثير.
في أحد أكبر التغييرات في الإعلام الرقمي، تتسابق الشركات الكبرى على «إعادة اختراع» التلفزيون، لتتمكّن من الوصول إلى إعلاناته المقدّرة بمليارات الدولارات. أعلنت شركة «غوغل» في بداية الشهر الحالي أنّ يوتيوب يعتزم أن يصبح لاعباً أساسياً في هذه المباراة. أجرى الموقع الشهير الكثير من التعديلات الرامية إلى تعزيز الجانب الاحترافي لفيديواته، بما فيها إطلاق خدمته الخاصة بالاشتراكات تحت اسم «يوتيوب ريد». وأخيراً، مشى يوتيوب خطوة إضافية على هذا الطريق، من شأنها أن توقعه في مزيد من المشاكل مع فايسبوك و«أمازون»، اللذين يسعيان كذلك للاستحواذ على مستقبل التلفزيون. هكذا، أعلن يوتيوب خلال نشاط للمعلنين في نيويورك أنّه سيُطلق 40 برنامجاً جديداً تتمتع بأسلوب التلفزيون، سيصوّر جزء كبير منها مشاهير معروفون على الشاشتين الكبيرة والصغيرة. ونقلت مجلة «فورتشن» الأميركية أنّ الرزمة الأولى مؤلفة من سبعة مشاريع تضم محتوى مرتجلاً لممثلين، ومقدّمي برامج، وموسيقيين، وكوميديين، منهم: إيلين دي جينيريس، وكيتي بيري، وديمي لوفاتو، ولوداكريس، وكيفين هارت. المديرة التنفيذية للموقع، سوزان وجسيكي، أكدت أنّه «ليس تلفزيوناً ولن يصبح كذلك»، متوجّهةً إلى الحاضرين: «المنصة التي ساهمتم في ولادتها تمثّل شيئاً أكبر». لكن ما يجري على الأرض يوضح أنّ الويب سايت الشهير ينوي التحوّل إلى ما هو أكبر بكثير من مجرّد منصة للطامحين إلى الشهرة والظهور أو لإيجاد فرصة للتعبير عن آرائهم وعرض أعمالهم.

سباق بين الشركات الكبرى على «إعادة اختراع» التلفزيون


ليس يوتيوب وحده من لديه طموحات في هذا المجال. فايسبوك اتخذ عدداً من الإجراءات العملية على صعيد التلفزيون، من بينها خطوات تبدو كأنّها تبعده عن المحتوى القصير الأمد الذي يقدّمه الجمهور عبر خدمة «فايسبوك لايف»، وتقرّبه أكثر من الأعمال التي تتسم بـ «التقليدية وطول الأمد». في العام الماضي، عيّن الموقع الأزرق ريكي فان فين، أحد مؤسسي موقع الفيديوات CollegeHumor، موكلاً إليه مهمّة تمويل وترخيص الأعمال التي تحاكي المحتوى الترفيهي القريب من أسلوب التلفزيون. ويتردّد في الكواليس أنّ فايسبوك ينوي توظيف منتج هوليوودي للغاية نفسها. موقع Business Insider، أعلن أنّ فايسبوك سيُصدر أوّل مجموعة من فيديواته المشغولة بأسلوب التلفزيون في منتصف حزيران (يونيو) المقبل، موضحاً أنّه يخطط لنوعين من الأعمال: «الأولى طويلة وبميزانية عالية مشابهة للمسلسلات المعهودة، والثانية أقل كلفة وتراوح مدّة كل منها بين 5 و10 دقائق، ويجرى تحديثها كل 24 ساعة». حماس يوتيوب وفايسبوك في هذا الصدد، سيضعهما في مواجهة شبكة «نتفليكس» التي تنفق مليارات الدولارات على شراء حقوق البرامج التلفزيونية والأفلام وغيرهما من الأعمال الترفيهية، فضلاً عن إنتاج مشاريع خاصة بها. حتى أنّ عدداً كبيراً من المراقبين، رأوا أنّ الأسعار في هذه «الصناعة» آخذة في الارتفاع بسبب «قدرات الشبكة الأميركية الكبيرة على الإنفاق، واستعدادها الدائم لذلك»! مهلاً، اللائحة لم تنته بعد. هل نسيتم «أمازون»؟ للشركة العملاقة والرائدة في مجال التجارة الإلكترونية ما يكفي من الأموال ــ على الأقل كما فايسبوك و«نتفليكس» ــ وقد أظهرت بوضوح رغبتها بدخول هذه السوق بقوّة.
تويتر كذلك يريد قطعة من الحلوى. إذ كشف النقاب أخيراً عن صفقات تمكّنه من بث أنشطة رياضية، على شاكلة مبارايات كرة السلة النسائية و«دوري الهوكي الوطني»، ومحتوى تصنعه لصالحه «بلومبيرغ» و«فوكس ميديا». غير أنّ قدرة تويتر على منافسة لاعبين بحجم فايسبوك و«أمازون» دونها عراقيل، بسبب الحجم والمساحة الصغيرين اللذين يتيحهما، والمصادر المالية المحدودة. فقد تمكّنت «أمازون» في الفترة الماضية من كسب جولة من معركتها مع تويتر بحصولها على حقوق بث مباريات ليالي الخميس من «الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية»، عبر دفع خمسة أضعاف المبلغ الذي عرضه موقع التغريدات العام الماضي. واستطاعت الشركة نفسها التفوّق على «نتفليكس» وغيرها من اللاعبين في ما يخص حقوق أفلام وعروض تلفزيونية تتعلق بأنشطة مهمّة مثل مهرجان «صندانس»، من دون أن ننسى أنّها وسّعت انتشار خدمة «أمازون برايم فيديو» لتشمل 200 دولة، ما يُشعل المنافسة بينها وبين «نتفليكس» حتماً.
هنا، لا بد من ملاحظة مهمّة حول العائدات الإعلانية. تستمد «أمازون» قوّتها في هذا الصدد من إدارتها خدمة خاصة بالاشتراكات هي «أمازون برايم»، تولّد أرباحاً كبيرة. في حال فشل البرامج التلفزيونية والأفلام التي تنتجها أو تشتري حقوق عرضها في تحقيق نسب مشاهدة عالية، تستطيع «أمازون» الفوز بمجرّد النجاح في إقناع المزيد من الناس بتسجيل اشتراكات في خدمتها. في المقابل، يعتمد فايسبوك و«غوغل»، نظرياً، على عائدات الإعلانات، رغم أنّهما يديران أعمالاً ضخمة تدرّ عليهما أموالاً طائلة.
تطبيق «سناب شات» لن يقف متفرّجاً. أكدت الشركة الأم في بداية الشهر الحالي عن إبرام صفقات مع محطات وشركات إنتاج تلفزيونية لبثّ برنامج عبر التطبيق المتخصص في عرض ومشاركة الصور والفيديوات القصيرة. ومن بين هذه المؤسسات، نذكر: NBCUniversal، وA+E Networks، و«ديسكفيري»، و«هيئة الإذاعة البريطانية»، وABC، وESPN، وفق ما أكدت «وول ستريت جورنال». وأشارت الصحيفة الأميركية إلى معايير العمل مع «سناب شات» بسيطة: الإيجاز، ومشاركة الناس، وعدد كبير من الحلقات، فيما هناك مساحة لكل الأنماط والأشكال من دون الحاجة إلى الكثير من المال.

تغيّر مزاج المشاهدين دفع مؤسسات أميركية مرئية إلى المواكبة والتطوير

«موت التلفزيون» عبارة تترّدد كثيراً منذ زمن. لكن في معرض مقال نشره في التاسع من هذا الشهر على موقع «بزنس إنسايدر»، لفت روبرت إلدر إلى أنّ هذا غير صحيح لأنّ الشاشة الفضية «تتطوّر وتتوسّع عبر برامج تعتمد على مصادر جديدة للأخبار يتم الوصول إليها بطرق حديثة». واستشهد المقال بتقرير مفصّل أعده محلل الأبحاث في BI Intelligence، ديلان مورتنسن، حول مستقبل التلفزيون، وكيفية تبدّل الـ «ترندات» المتعلقة بالمشاهدة، والاشتراكات، والإعلانات، إلى جانب ما الذي يشاهده الناس وعبر أي منصات في ظل ابتعادهم عن الشاشة الصغيرة. أبرز النقاط التي ركّز عليها تتلخص بأنّ تعرّض الناس للمحتوى الإعلامي صار أكبر من أي وقت مضى، لكنه أضحى على شكل نزوح لافت إلى السوشال ميديا التي تمكنهم من الحصول على المحتوى في الوقت الذي يريدونه. يترافق هذا مع لجوء إلى يوتيوب و«نتفليكس» و«هولو» و«أمازون» وخدمات البث الرقمي المباشر (لايف ستريمينغ) عبر المنصات الافتراضية. كما أنّ معدّل الوقت الذي يشاهد فيه البالغون الأميركيون التلفزيون تراجع 18 دقيقة مقارنة بالعامين الفائتين (نسبة 6 في المئة)، مما يؤثّر سلباً على اشتراكات الكابل وعائدات الإعلانات.
لكن نتائج هذا الواقع ليست سلبية بالكامل بالنسبة إلى الشركات المرئية الكبيرة. تغيّر مزاج المشاهدين دفع المؤسسات المتلفزة الشهيرة في الولايات المتحدة إلى العمل على تطوير موادها من خلال إنتاج محتوى خاص بجمهور الموبايل، والتعاون مع شركات إعلامية رقمية مبتكِرة.
إضافة إلى ذلك، بدأ موزّعو الكابل توفير بدائل للزبائن غير الراغبين في شراء حزم تلفزيون كاملة. وشدّد مورتنسن على أنّ شراء إعلانات البرنامج التلفزيونية مثّل 4 في المئة فقط من ميزانيات الإعلانات التلفزيونية في الولايات المتحدة في 2015 (2.5 مليار دولار)، غير أنّه مرشّح للارتفاع إلى 17 في المئة (10 مليارات دولار) بحلول عام 2019. ما يحدث في الولايات المتحدة حالياً يعطي صورة تقريبية عمّا يجري (أو سيجري) في الغرب بشأن التلفزيون والسوشال ميديا، لكن أين العالم العربي من هذه التحولات؟

="" title="" class="imagecache-465img" />
نسب استخدام السوشال ميديا كمصدر للاخبار في عدد من الدول | للصورة المكبرة انقر هنا