صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر
بول ايلوار (1895 ــــ 1952)
ترجمة: محمد ناصر الدين

I


لا شيء يتم وصفه بشكل كاف، لا شيء تتم إعادة انتاجه بشكل حرفي. غرور الرسامين العظيم دَفَعَهُم لأن يتسمروا طويلاً أمام منظر، أمام صورة، أمام نص، كما هي الحال أمام جدار، من أجل تكراره. لم يكن الجوع نابعاً من ذواتهم، كانوا في طور التطبيق فقط. أما الشاعر، فإنه يفكر بشيء آخر. الشاذ يبدو له مألوفاً، والتأمل المسبق مجهولاً. الشاعرـ ضحية الفلسفةـ هو طريدة الكون. «إنه انسان، أو حجر، أو شجرة، الذي سيبدأ النشيد الرابع»(لوتريامون). لو كان إنساناً، هل سيكون ذلك الذي يهتاج دون فائدة، أم ذلك الآخر الذي يقضم إبتسامته البلهاء؟ لسنا هنا بصدد وضع بورتريه للانسان. إنه انسان واحد يتكلم من أجل الإنسان، إنه حجر واحد يتكلم من أجل الحجارة، إنها شجرة واحدة تتكلم من أجل كل الغابات، من أجل الصدى الذي بلا وجه، الوحيد الذي يبقى، الوحيد، في نهاية المطاف، الذي قد تم التعبير عنه. صدى عام، حياة قد تشكلت من كل لحظة، من كل جسم، من كل حياة، الحياة.

II


دقات البندول ضربتان من سكين، ودم العذراء يتطاير برفق تحت القمر.
دائماً ما تكون في القصائد هوامش بيضاء كبيرة، هوامش كبيرة من الصمت حيث تُستهلك الذاكرة الحادة من أجل إعادة خلق هذيان بلا ماضٍ. هوامش ميزتها الرئيسة ليست في الاسترجاع بل في الإلهام. العديد من قصائد الحب التي هي دون موضوع، ستجمع عشاقاً. بعضها الآخر ستخص عشيقة الشاعر برجل آخر. بالنسبة لحبيبها، تحل المرأة المعشوقة محل كل النساء المرغوبات.

III


كم يحتاج الرسام من الصور من أجل إظهار الشبهات الأكثر بساطة، التحولات الأكثر اعتيادية، مثل «إنه انسان، أو حجر، أو شجرة، الذي سيبدأ النشيد الرابع». لأنه لو حصر عمله بتصوير حجر كهذا، أو شجرة كتلك، سنحتجّ دائماً أن الأمر يتعلق بهذا الحجر وهذه الشجرة أكثر من غيرهما: هما بالتعريف أكثر وضوحاً بالنسبة لنا إذ لم يتم اقتراحهما علينا من قبل الرسام. هكذا حتى اللانهاية. ماذا عن الإنسان؟ آه لك لوتريامون من دون وجه. وكلمة «أو»، ما هو مصيرها؟ كم يحتاج الرسام من الصور كي يظهر بطريقة بائسة المطر، النابض الأخير للغيوم، حين يكون لديها ما يكفي من التظاهر بالوداعة؟ كم يلزم من الصور أو من شظايا الصور لمن يعيش حصراً زمن تفككه، أو من يمعن حصراً بالتفكير في المفاجأة، والحادث الطارئ، والتفسير الخاطئ، والنسيان والإنزلاقات الجميلة، والكلمات الجديدة، والكلمات العجيبة، ومهربي فوسفور الرغبات، ورصاص الصراحة، وعقيق الكراهية؟ ما هو الملمح الذي يقول «أحبك» دون إمكانية التشكيك فيه؟ الكلمات هي التي تربح. لا نرى ما نريد إلا بعينين مغمضتين.

IV


مقتنعِين أخيراً بالفقر المطلق للتصوير الحرفي، كان بعض رسامي النصف الثاني من القرن الأخير قد جربوا أن يعبّروا عن الصور أو حتى عن جوهر الشعر الذي قُدِّم لهم بواسطة رموز؛ لكن المجهود الأدبي المحدود الذي ظنوا أن الأمر يحتاجه، جعل للأسف فنانين مغمورين فقط يخوضون هذه التجربة، كوننا لا نجد إلا أمثال روب، وريدون، وغرو، فإنّ التصوير الرمزي للشعر قد مات قبل أن يقوم بإعادة احتلال المكان الذي يستحقه.

V


ابتداء من بيكاسو، بدأت الجدران تسقط. لم يعد الرسام يتنازل عن حقيقته إلا لأجل حقيقة العالم. إنه أمام قصيدة كما يكون الشاعر أمام لوحة. هو يحلم، يتخيل، يخلق. وفجأة، يولد الشيء الافتراضي من الشيء الواقعي، يستحيل واقعياً بدوره ويشكلان صورة، من الواقعي الى الواقعي، مثل كلمة مع كل الأخريات. لسنا بصدد أن نخطئ مجدداً في الموضوع، لأن كل شيء ينسجم، يرتبط، يأخذ قيمة، يُستبدَل. لا يفترق شيئان إلا من أجل أن يلتقيا بشكل أفضل في ابتعادهما، بالمرور في مقياس كل الأشياء، كل الكائنات. قارئ القصيدة يوضح الأمر بقوة: إنه يشرب من النبع. هذا المساء، لغته تأخذ صوتاً مختلفاً، ضفائرها التي يحبها تنتعش أو تتعاظم. إنها تتفادى جبّ الأمس الحزين أو تنغرز في الوسادة مثل شوكة.
حينئذ تعيد العيون الجميلة الكرّة، تفهم، حينئذ يُضاء العالم.

* نص بول ايلوار من كتاب «إعطاء الرؤية» (Donner a voir)- دار غاليمار، باريس، ١٩٣٩.