في الغالب، يُلصَق الخطأ بالمتعلم وحده فيُهمش ويقصى ويعاقب، في حين أن المشاكل الدراسية، صغيرة كانت أم كبيرة، ليست ذاتية فحسب ولا تتعلق فقط ببنية التلميذ المعرفية. فأن يُخطئ المتعلم أو يرسب لا يعني بالضرورة أنّه «كسول»، أو«مش دارس» أو«ما بيقدر يعطي» أو«أهلو مش مهتمين»، بل ثمة مروحة واسعة من الأسباب الشخصية والنفسية والاجتماعية المتصلة ليس فقط بأداء المتعلم بل أيضاً بأداء المعلم والنظام التعليمي في المدرسة والبلد، والتي قد تعترض سبيل بعض المتعلمين وتحول دون تمكنهم من متابعة دروسهم.
المتعلمون ليسوا كتلة متجانسة من حيث الذكاء أو من حيث وتيرة التعلم أو هذا ما نبّه إليه عالم النفس الأميركي جيروم برونر في عام 1971 حين قال: «لا يوجد متعلمان يتقدمان بالسرعة ذاتها ولديهما الاستعداد للتعلم في الوقت ذاته، ويستخدمان تقنيات الدراسة ذاتها... ويعبران عن الاهتمامات ذاتها...».

نظام تعليمي أكثر إنصافاً

من هنا كانت ضرورة تصميم «تعليم فارقي»، وهو طريقة تربوية تستخدم مجموعة من الوسائل التعليمية بقصد مساعدة المتعلمين المختلفين في القدرات والسلوكيات، والمنتمين إلى صف واحد، للوصول إلى الأهداف والمعارف الأساسية نفسها.
يقول الخبير في العلوم التربوية، الباحث البلجيكي جان ماري دوكتيل، إنّ أشكال التعليم الفارقي تطورت في العالم وتفاوتت آثارها على صعيد الفعالية والعدالة، ومن أهم مزايا هذا التعليم هو تمكين النظام التعليمي من أن يصبح أكثر إنصافاً ومواجهة الفروق بين التلامذة إيجابياً بمنحهم الثقة بأنفسهم.
كيف؟ يشير دوكتيل إلى أن «المطلوب التفريق من خلال الإشراك والدمج وليس من خلال الإقصاء والفصل، وذلك بلجوء المعلم إلى دراسة وتشخيص الميزات الخاصة بكل تلميذ من حيث الاهتمامات والتركيز وتمكينه من تطوير إمكاناته. فالتلميذ لا يشكل تحدياً للمعلم بل مصدراً للتعلم (إذا لم يتعلم المعلم من التلميذ لا يعلمه شيئاً)». ويرى دوكتيل أن فصل التلامذة بحسب قدراتهم وخصوصياتهم في صفوف أو مجموعات عمل قوية وأخرى ضعيفة هي طريقة مستترة لوضع وصمة معينة على التلميذ الضعيف، وقد يكون من سخرية النظام التعليمي هروب المعلمين الذين يتمتعون بمؤهلات أعلى من حيث التدريب والتكوين الدراسي إلى الصفوف القوية. اللافت ما يقوله لجهة أنّ انتقاء الأهل للمؤسسة التربوية الأكثر رقياً قد لا يكون بالضرورة الخيار الأفضل دائماً لأولادهم، لا سيما إذا كان التلميذ حساساً للمقارنات الاجتماعية، ما سينعكس على تحصيله الدراسي. دوكتيل يوضح أيضاً أن الأبحاث التربوية أفضت إلى أنّ معالجة التأخر المدرسي بإعادة الصف ليست وسيلة ناجعة نظراً إلى آثارها السلبية على الأداء الدراسي والمتغيرات النفسية والاجتماعية. ويشير إلى أن فرنسا هي من البلدان التي تعتمد هذه الوسيلة بنسبة كبيرة، في حين أن فنلندا تتجنبها بشكل كبير لكونها تؤثر على ثقة التلميذ بنفسه.
دوكتيل كان يشارك في مؤتمر نظمته «المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم ــ مدارس المهدي» لعرض ملامح مشروع بدأت المؤسسة باعتماده منذ عام 2012.
فكرة المشروع انطلقت، كما يشرح مدير الإشراف التربوي غالب العلي، من مشاكل التلامذة وتعثرهم الدراسي ومن حاجات المجتمع وإحصاءات تؤكد دوماً وجودَ نِسبِ رسوبٍ وتسرّبٍ مدرسي لا يستهانُ بها (19.7% متأخرون و6.2 % راسبون في 2015-2016، بحسب النشرة الإحصائية الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء).

الدعم المدرسي لا يكفي

برأي العلي، الرسوب والتسرّب المدرسيّان هما نتيجةٌ لمسار تعلّمي طويل، ويصعب التعامل معهما بالطرق العاديّة من خلال ما اصطلح على تسميته الدعم المدرسي، الذي يصلُ عادة متأخّراً من خلال طرق الإعادة والإكمال والتصحيح وإخراج التلميذ من الصف وتخصيص ساعات إضافية بعد الدوام، والتي غالباً ما تولد إحباطاً لدى المعلم والمتعلم على السواء. يحصل ذلك من دون العناية بالأسباب والمصادر التي ينتج عنها الإخفاقُ الدراسي، وغالباً ما يكون الجهدُ المبذولُ في الدعم المدرسي غيرَ متناسب مع النتائج المحصّلةِ منه، وهذا ما يفتح النقاشَ على مصراعيه: على مَن تقع المسؤوليّةُ على المدرسة، أم على الأهل، أم على التلميذ، أم على المجتمع؟ هل بمقدور المدرسةِ العاديّةِ أن تأخذَ على عاتقها معالجةَ المشاكل والصعوبات التعلّميّةِ لدى المتعلّمين على تنوّعها واتّساعها وانتشارها؟ أم يُتركُ المتعلّمُ لقدره؟ وكيف نساعد التلامذة في إكمال مسارهم التعليمي بالشكل الذي يتناسب مع استعداداتهم وقدراتهم ومواهبهم الخاصة بحيث يصبح كل تلميذ حالة بحد ذاتها؟.
هذه الأسئلة دفعت المؤسسة إلى البحث في مجال معالجة المشكلات التعلّيميّة لدى المتعلّمين، وبالتالي تأمين بيئةٍ مؤاتية لاحتياجاتهم، وقد أفضت الدراسةُ الاستطلاعيّةُ للأدب التربوي الفرنكوفوني والأنغلوساكسوني والخبراتُ التربويّة للكادر في المؤسّسة إلى وضع مشروع متكامل تحت عنوانِ «المعالجة التربويّة». وهنا يوضح العلي أننا «لم نسارع إلى تبنّي نموذجِ معالجةٍ تربويّة جاهزٍ لإسقاطه كيفما كان على مدارسنا، بل اتبعنا منهجيّةَ المقارنةِ بين أفكار الآخرين وتجاربِهم والواقع في لبنان وخصوصيّاتِه وظروفهِ».
ماذا تعني المعالجة التربوية؟ يقول: «هي عمليّةٌ استدراكيّة لردم الثغر التعلّميّة للأهداف والكفايات غيرِ المحقّقةِ لدى المتعلّمين، وتُبنى في ضوء تشخيصِ أخطائِهم وتحديدِ أسبابها ومصادرها».

مشروع يحاكي المدرسة العادية

يشرح أنّ النموذج يتعامل مع الأهداف البنائية أي المواد التأسيسيّة في مسارات التعليم والتي تعد ضروريّةً لتعلّم مختلف المواد التعليميّة، وقد تمّ تحديدُها في إطار هذا النموذجِ بمواد اللغات (في الحلقات الثلاث من التعليم الأساسي من الأول حتى التاسع أساسي) ومادّةِ الرياضيّات (ابتداء من الصفّ الثالث الأساسي وحتّى التاسع)، إضافة إلى مواد العلوم في الحلقة الثالثة (من السابع حتى التاسع أساسي) باعتبارها تأسيسيّة للمرحلة الثانويّة.
لكن اعتماد مثل هذا النموذج ينتج عشراتِ الوضعيّات التعلّميّة التي تحتاج إلى المعالجة، وفي كلّ وضعيّة هناك حاجة إلى أنماطِ تختلف بحسب المتعلّمين والأهدافِ المطلوب تحقّقُها والحلقةِ التعليميّة، مّا يُوحي بصعوبة هذه العمليّةِ وتشّعبِها، ويُشكّك بإمكانيّة تطبيقها في المدرسة العاديّة، فكيف طبق المشروع عملياً؟

معالجة التأخر المدرسي بإعادة الصف ليست وسيلة ناجعة

شكّلت المؤسّسةُ، بحسب العلي، فريقَ عمل من المتخصّصين في المواد الداخلة في المشروع، ودرّبت المنسّقين والمعلّمين وكلِّ المعنيّين داخلَ المدرسة، ورسمت هيكليّةً إداريّةً فنّيّةً في مدارسها الـ17 وربطتْها بفريق العمل المركزي، ونظّمت عملياتِ المتابعةِ والمواكبة للتقييم المستمرِّ لمسارات التطبيق، وأجرت عدداً من الدراسات التجريبيّةِ فضلاً عن الدراسات التقويميّة، وأقامت عدداً من اللقاءات والمؤتمرات الداخليّةِ للوقوف على حسن سير الأمور ولمعالجةِ المعوّقات التي تعيق التنفيذَ والتطبيقَ السليم.
ومن التحديات التي واجهت المشروع التفاوت في تفاعل المعلمين مع النموذج وتقبل تطبيقه وتوفير الوقت المتاحِ للعملية والمواردِ المطلوبةِ المعنويّةِ منها والبشريّة والماديّة والتربويّة.

أنماط معالجة متدرجة

النموذجُ يتبنّى أربعة أنماطَ معالجة متدرّجة، تبدأ بالمعالجة الفوريّة المدمجةِ في العمليّة التعليميّة، وهي عبارةٌ عن إجراءاتٍ علاجيّةٍ مباشرة وفوريّةٍ لمشكلاتٍ وثغر وأخطاءٍ تعلّميّة خاصّة ومحدّدة. ثمّ المعالجةُ الموجّهةُ التي تعبّر عن تعثّرٍ وضعفٍ مّا يتطلّبُ معالجةً مركّزةً ومحضّرةً مسبقاً. أمّا المعالجةُ المؤسساتيّةُ فهي تهدفُ إلى تصويب تعلّم مجموعات كبيرةٍ نسبيّاً من المتعلّمين. والنمطُ الرابعُ هو المعالجةُ المختصّة التي تهتمّ بذوي الصعوبات التعلّميّة الذين يحتاجون إلى المتخصّصين بالتربية الخاصّة والمتخصّصين النفسيّين والاجتماعيّين.
يبدو العلي مقتنعاً بأنّ المؤسّسةَ استطاعت من خلال تجربتها أن تصوغَ نموذجاً تطبيقيّاً للمعالجة التربويّة صالحاً للاعتماد والتطبيق في المدارس على اختلاف أنواعها، لا سيّما المدرسةُ العاديّةُ باعتباره قابلاً للتعامل مع مختلف المشكلات التعلّميّة التي يتعرّض لها المتعلّمون في سياق تعلّمهم.
لكنه يستدرك: «لا يمكن قياس نتائج المشروع في المدى القريب. فالهدف هو إعطاء التلميذ فرصة الاستمرار في المسار التعليمي وليس إنجاحه وهنا تكونت لدينا انطباعات لا أرقام، تظهر من خلال التغذية الراجعة وردود فعل الأهل والتغيير الذي طرأ على نظرة المعلم إلى المتعلم وعلاقته به وتطوير المعلم لأدائه بحيث أصبح أكثر تخصصاً بالعملية التعليمية وليس فقط بمادته».


* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]




أدوات التشخيص

لا يقتصر نموذجُ "المعالجة التربوية"على مؤشّر العلامة أو الاختبارات والتقويمات العاديّة، بل هناك التقييم التشخيصي الذي يسبق التعليمَ، والتقييم التكويني العادي للأهداف الجزئيّة أثناءَ عمليّةِ التعليم، والتقييم التكويني المتدرّج لمجموعة الأهداف الجزئيّة التي ترتبط ببعضها في سياق تكوين الأهداف البنائيّة، والاختبار التشخيصي المقنّن والمرمّز للأهداف البنائيّة بعد الانتهاء من تعليمها وتعلّمها إذا تم اكتشاف ثغرةً حادّة عند المتعلّم في تقييم وضعيّاته التطبيقيّة لهذه الأهداف، هذا فضلاً عن الملاحظة الدقيقة للسلوك التعلّمي، والمقابلةِ التشخيصيّة الدقيقة (العياديّة)، والملفِ التعلّمي للتلميذ (البورت فوليو)، والاختباراتِ، وغيرِ ذلك من الأدوات الدقيقة والمقنّنةِ بالاستعانة بالمراكز المختصّة عند الحالات التي تتطلّب تشخيصاً متقدّماً. يعني ذلك أن المعالجة تسلك مساراً قبل الحكم بأن التلميذ يعاني صعوبة تعلمية.