ما الذي يحدث لمشروع «المجتمع المدني» في المنطقة العربية؟ يبدو أن كل شيء ينهار. لا الكتابات ولا اللقاءات ولا المبادرات ولا المراجعات تنفع.
كلٌّ يغني على ليلاه. لم يعد هناك من قضايا كبرى. مفهوم «الشأن العام» اندثر، أو على الأصح انفجر. العالم بات منقسماً إلى مجموعات مصالح كبيرة ومتوسطة وصغيرة جداً، بمستوى الفرد وأقل أحياناً. المجموعات الكبرى تحتكرها الشركات الكبرى، أو المؤسسات الدينية أو العرقية أو العسكرية.

أما المجموعات الوسطى فقد تكون العائلية أو الأحزاب السلطوية المستثمرة أو المتحالفة مع بعض قوى السوق. وما تلك الصغرى غير مجموعات المجتمع المدني ومنظماته، التي تعتاش على الفتات المتساقط من بقايا موائد قوى السوق.
أما الانقسام الأوضح في العالم فقد بات بين طبقتين كبيرتين، طبقة المنتجين الصغيرة عددياً، وطبقة المستهلكين الكبيرة والعابرة لكل أنواع الحدود والقوميات والفروقات التقليدية المعروفة.
يقال إن الذي سهل تحول الأكثرية الساحقة من سكان هذا الكوكب إلى مجرد كائنات مستهلِكة، هو التقدم العلمي وثورة الاتصالات وتطوّر التقنيات الرقمية. وسرعان ما بدأت تتحول تلك الطبقة المستهلكة إلى طبقة مستهلَكة. يتم استهلاكها بالعمل واستهلاك سلع جديدة ومتجددة باستمرار بعد أن يروّج لها بشبكات ضخمة من الإعلانات وتفتح لها الأسواق الجديدة باستمرار. بالإضافة إلى تسهيل وصولها إلى كمٍّ هائل من المعلومات، تعطل أي فكر نقدي وأية قدرة على التأمل، أو مجرد ربط الأفكار ببعضها للخروج باستنتاجات معقولة، وتعطل أية قدرة على المراجعة... لا بل تعطل المعرفة الحقيقية بأي شيء.
«كثرة المعلومات تعطل المعرفة». عنوان أحد فصول الورقة التي قدمتها في مؤتمر تونس للمعلومات عام 2005. وهي لا تزال صالحة حتى الآن، مع إضافة تتعلق بتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك، ينزع عنه هويته وشخصيته واستقلاليته.
لم يعد الإنسان الحالي حراً مع ثورة التقنيات الرقمية. أصبح «مستهلَكاً». لقد تم احتلالنا تماماً بواسطة الشاشة الصغيرة الرقمية لهاتفنا النقال.
كل التقنيات السابقة، حتى التلفاز، كانت لا تزال وسيلة، ولكن مع هذه الرقمية الصغيرة الأخيرة، أصبحت غاية بحد ذاتها ومرجعية. وهذا تطور خطير جداً يجب دراسته والتوقف عنده مطولاً. هذه الشاشة الصغيرة باتت تحتكر نشاطنا وفكرنا واهتمامنا لفترة طويلة جداً من حياتنا اليومية بطريقة لم تفعلها أي تقنية من قبل. شكل جديد من أشكال الفرض والإدمان. أصبحت هذه الشاشة الصغيرة هي الشأن العام والخاص معاً. هي الموجّه ونحن مجرد متلقين سلبيين. هي المصدر لكل المعلومات المطلوبة وغير المطلوبة، التي تخلق وهم المعرفة بكل شيء... ولا حاجة بالتالي للكتاب والمراجع الفكرية والمفكرين وللمجتمع والحزب وكل آليات النقاش والتفكير والتأمل وصناعة الرأي والقرار والاهتمام بالشأن العام... ونحن في الواقع لا نهتم إلا بها كشاشة صغيرة بحد ذاتها، التي فيها «انطوى العالم الأكبر».
ولعل أخطر أثر سلبي تتركه تلك الشاشة الصغيرة، هو في انفصالنا التام عن الطبيعة. لا سيما أن هذا الانفصال بات يبدأ الآن في مرحلة مبكرة جداً من طفولتنا، مع استبدال اللعب في الحديقة وعلى التراب باللعب على الشاشة.
يتحدث بعض علماء النفس اليوم عن حالة جديدة يطلقون عليها تسمية «اضطراب نقص الطبيعة». لا يعتبرونها حالة مرضية حقيقية. إلا أنها قد تكون أخطر من أن تصنف حالة مرضية. فهذا الانفصال عن العالم الطبيعي والتعلق بشاشة صغيرة، ستكون له انعكاسات بالغة الخطورة، على الشخصية والعقل والخيال وعلى معنى الوجود الإنساني نفسه... غير مقدرة بعد.
قد يقال إن هذه النظرة بالغة التشاؤم للتقنيات الرقمية وهي تتجاهل الفرص التي تقدمها، لا سيما لناحية الكم الهائل من المعلومات الفورية التي يمكن أن تؤمنها بأبسط الطرق، وسهولة الاتصال والتواصل... إلا أن هذه النظرة التفاؤلية تتجاهل أيضاً أن كثرة المعلومات لا تنتج معرفة عميقة، لا سيما تلك الوجودية. وأن الاتصالات السريعة لا تغني عن لقاء وتفاعل حقيقي في حالات الفرح أو الحزن... وأن الإنسان المستهلك والمحتل والغارق بعالمه الوهمي الخاص لن ينتج سوى المزيد من الأوهام والآلام. ولا نعرف إذا كان أحد قد قاس أو قارن بين تزايد سرعة الاتصال والوصول وبين التناقص في مقدار السعادة. وللموضوع صلة.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]