إعجاب محّب جميل بصوت فتحية أحمد إضافة الى نقص المراجع الدقيقة والمعمقة حول سيرتها، دفعا به إلى الانكباب على «فتحية أحمد... مطربة القطرين» (دار الجديد) الذي احتاج إلى الكثير من الأبحاث والتدقيق. يعبّر جميل في الكتاب عن دهشته إزاء تضارب المعلومات المتعلقة بحياتها وافتقارها إلى الدقة. وبطيبعة الحال، لم تسّهل هذه الفوضى عملية جمع المعلومات واختيار أكثرها صواباً. كان عليه مطابقتها مع السياقين الزمني والمكاني، والاعتماد على المنطق من أجل صياغة تلك السيرة بأكثر قدر من الصدق، خصوصاً أنه لاحظ أن الكثير من الغموض يحيط بشخصية أحمد.
يتألف الكتاب من 165 صفحة، ضمنها صفحات من صور قديمة، تمزج بين الشخصي والمهني في حياة المطربة، فنراها الى جانب كبار الموسيقيين آنذاك، سواء مطربات أمثال أم كلثوم وأسمهان، أو ملحنين وشعراء تعاونت معهم في أعمال متنوعة.

يوزّع جميل سيرة أحمد على 6 فصول، منطلقاً من نشأتها في كنف أسرة تعشق الفن، الى بروزها في المسرح الغنائي. كما يتوقف عند الملحنين والشعراء الذين عملت معهم، وأسلوبها الغنائي ومشاركتها في عدد من الأفلام السينمائية. ويختتم بنبذة عن حياتها الاجتماعية. الى جانب الفصول الستة، أربعة ملاحق تضع سيرة أحمد في السياق الزمني الذي عاشت ضمنه، فنقرأ عن آراء الصحافة بها وبصوتها، ومكانتها في الساحة الفنية المصرية في ظلّ حضور فنانتين بارزتين غيرها في الوقت عينه هما أم كلثوم ومنيرة المهدية. كما يعرض الكاتب لائحة بأشهر أغنيات مطربة القطرين. دخلت أحمد باب السينما من خلال الغناء لا التمثيل، فكانت لها مشاركة في أفلام «عايدة» و«حنان» و«أحلام الشباب». ومن أشهر أغانيها التي راوحت بين الطقاطيق والأدوار والقصائد «الحلوة أهي قامت تعجن» و«حلاوة الدنيا» و«مصرنا فوق الجميع»...
الغموض الذي لفّ حياة فتحية أحمد يبدأ من تاريخ ولادتها الملتبس بسبب عدم تطابق المصادر. ومن هنا، كان على المؤلف أن يتبع المنطق كما يشرح في الكتاب كي ينتقي من بين المعلومات الواردة في مصادر مختلفة تلك الأقرب الى الواقع بحسب تحليله. ويرجّح أن تكون من مواليد 1905. هي ابنة منشد، كما أن شقيقاتها الثلاث مغنيات.
لم تتلق قدراً كافياً من التعليم، الا أن ذلك لم يمنعها من إتقان أداء القصائد الصعبة ولفظها بطريقة سليمة. وكان نجيب الريحاني أول من اكتشف موهبتها، فأتاح لها فرصة الغناء والتمثيل وفتح أمامها أبواب الشهرة والفن والعمل مع كبار الملحّنين.
اشتهرت باهتمامها الشديد بالتطريب، الا أنه بحسب المؤّلف، تعرّضت للانتقاد في هذه الصدد، واعتبر بعضهم أداءها أحياناً مصطنعاً. من أبرز محطات حياتها الفنية تشكيلها تختاً موسيقياً خاصاً بها في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، رافقها في رحلاتها المتعددة. ومن المشاركات اللافتة أيضاً تأديتها دور أنطونيو في مسرحية «انطونيو وكليوباترا» الى جانب منيرة المهدية عام 1926، في حين كان يُفترض أن يُسند الدور الى محمد عبد الوهاب. واشتهرت أحمد التي غنّت القصائد والأدوار والمونولوجات وعدداً من الطقاطيق، بروح التجديد الذي أضفته على أداء الموّال.
يولي الكتاب أهمية كبيرة لأسلوب أحمد الغنائي وللملحّنين الذين تعاونت معهم في مسيرتها. الفصل الثالث مخصص بالكامل لهؤلاء الموسيقيين الكبار منهم سيّد درويش، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد. يتوقف عند كلّ منهم مقدّماً نبذة عنه وعن تعاونه مع أحمد. نقرأ في الفصل نفسه أيضاً عن براعة أحمد في الموال وتمكّنها من هذا الفن حدّ صعودها المسرح وتنغيمه من دون تنويط أو سابق إعداد. قد يبتعد الكاتب أحياناً عن موضوعه ويستطرد لشرح أنماط وتقنيات الغناء العربي، إنما في محاولة لوضع أحمد في إطار زمنها وإبراز أهميتها آنذاك وفهم ما ميّزها، ويعيد القارئ إلى الحقبة الموسيقية التي عاشت فيها أحمد.
في المقابل، يعمد الكاتب إلى المقارنة بين المراجع، ويدقق في كل نُسب إلى أحمد، حتى لا يقع في مزج معلومات من هنا ومن هناك ورسم بورتريه تقريبي للفنانة. يعطي جميل نبذة مقتضبة عن حياتها الشخصية وعن زيجاتها الثلاث وحياتها الاجتماعية غير الناجحة مقارنة مع صخب حياتها المهنية. رُزقت أحمد بأربعة أولاد من زوجها الأول اسماعيل بك سعيد الذي سافرت معه الى بلاد الشام، كما تزوجت للمرة الثانية عام 1948 من موظّف في وزارة الحربية المصرية، لتعود وتقترن بعد سنوات على طلاقها منه بعازف الكمان أحمد فؤاد علّام.
بطلب من الشاعر خليل مطران الذي تعرّفت إليه خلال إحدى رحلاتها الكثيرة بين الشام ومصر، لُقبت بمطربة القطرين بعد عودتها إلى مصر من بيروت حيث شاركت في جوقة جورج أبيض في مطلع العشرينيات. وشاء القدر أن تنهي حياتها بعيداً من الضجة والمجد في هدوء شقتها القاهرية، وأن تُشيع في جنازة متواضعة لم يحضرها إلا المقربون. يرجّح الكاتب اعتكاف الفنانة وابتعادها من الساحة الفنية إلى المرض وهيمنة أم كلثوم وخلاف نشب بينها وبين مدير الإذاعة المصرية التي التحقت بها لدى افتتاحها في ثلاثينيات القرن المنصرم.