«هلّق بقولوا عم نضرب الموسم السياحي في لبنان»(حسن نصر لله)

سنزف إليكم خبراً مفاجئاً ومفرحاً في آن: السعوديّة ضدّ إسرائيل! أجل، أجل.بل إن آل سعود، «أمراء النهضة وملوك التنوير» في هذا الليل العربي الدامس، يشعرون بالإهانة، إذا اتّهموا بعكس ذلك: أي بالعمالة الوضيعة لبني صهيون. ألديكم أدنى شك في كون السعودية «سداً منيعاً بوجه المشاريع الاستعماريّة» في المنطقة؟ تكفي قراءة ما جاء في شكوى السفارة السعوديّة في بيروت، ضد «شركة أخبار بيروت»، وضد رئيس تحرير «الأخبار»/ مديرها المسؤول الزميل إبراهيم الأمين، وضد الأكاديمي الفلسطيني و«المثقف المشتبك» الزميل سيف دعنا، صاحب المقالة التي أغضبت السفارة.

هذه المقالة البانوراميّة، المجلجلة بغضبها ونقدها، وتفكيكها آليات الخطاب الانهزامي الاستسلامي للرجعيّات والديكتاتوريّات العربيّة البائسة منذ نكسة الـ 67، تحاول أن تضع في سياقه التاريخي والسياسي «قرار آل سعود وجامعتهم (تصنيف) حزب الله منظمة إرهابية» («الأخبار»، 22 آذار/ مايو 2016). أطروحة الرفيق سيف ــــ «المضلِّلة» طبعاً! ــــ هي أن «انتصار المقاومة، لم يفضح قصور النموذج العربي الرسمي ولم يُعَرِّ تواطؤه فقط، بل كشف بوضوح عمق الارتباط البنيوي والمصلحي بين أقطاب المنظومة العربية الرسمية والاستعمار الصهيوني لفلسطين».
لقد ثارت ثائرة ممثل مملكة القهر في لبنان، على الظلم الذي لحق بها من جرّاء جزم الدكتور دعنا، بأن «منظومة آل سعود تصرفت منذ البداية بأمانة منقطعة النظير، والتزام غير مسبوق بتطبيق شروط الهزيمة». مجرّد افتراءات وتلفيقات أيديولوجيّة طبعاً، فيها ما فيها من جحود ونكران لجميل «مملكة الخير»، جعلت «الرفاق المقاومين» من آل سعود يشعرون بالغبن… وينتفضون! فقد تبيّن لهم «بوضوح» ــــ حسب ما جاء في وقائع الشكوى الجزائيّة ــــ أن كاتب المقالة يتهم «المملكة العربية السعوديّة وباقي الدول العربيّة، بالارتباط بالعدوّ الاسرائيلي، وتماهيها مع المشروع الصهيوني في فلسطين، وقبولها بالهزيمة بوجه إسرائيل». له له له، يا رجل! معقول؟ كيف تجرؤ؟ كيف يطاوعك ضميرك؟ و«هذا يشكّل قدح (كذا) وذمّاً بالمملكة العربيّة السعوديّة التي كانت على الدوام الداعم الأساسي للقضيّة الفلسطينيّة بوجه المشروع الصهيوني»، حسب ما يلفت إليه، بكل ثقة واندفاع، وكيل سفارة المملكة المحامي محمد علي التل، في نص الشكوى الجزائيّة.

طالب بحق المرأة السعودية في قيادة السيارة فتعرّض مصالح دولتنا العليّة للخطر
توقفوا معنا عند عبارة «على الدوام». هل تشمل هذه «الأبديّة» عناق تركي الفيصل آل سعود و… تسيبي ليفني مثلاً؟
لا يتوقّف غضب السفارة عند هذا الحد. فمقالة سيف التي تتصدّرها صرخة الشاعر العراقي الكبير مظفّر النوّاب، في قصيدة «تل الزعتر»: «أتحدى أن يرفع منكم أحد عينيه/ أمام حذاء فدائي يا قردة»، تستعير مجاز «القرد»، من كتاب شهير بعنوان «نحن» للكاتب الروسي يوجين زامياتين (1884 ــــ 1937). هكذا يبني زميلنا مقارنة بين علاقة القرد العدائيّة بالكتاب، إذ يذكّره بعجزه عن الارتقاء… فيدمّره، ونفور الانظمة العربيّة الرجعيّة من المقاومة: فإنجازاتها تعكس لتلك الانظمة صورتها الحقيقية، بما فيها من تبعيّة وتخاذل، بل وتآمر وخيانة. لكن لن نطلب من وكلاء الظلاميّة والانحطاط العربيين في القرن الحادي والعشرين لا أن يقرأوا فرانسوا رابليه ولا جورج أورويل، ولا لامارتين ولا زامياتين، ولا حتّى ابن المقفّع… لا يمكن أن نطلب من هؤلاء أكثر من طاقتهم: أن يفهموا الفرق بين المعنى المباشر والمعنى المجازي. ولا أن يقدّروا لغة الأدب والفن والشعر (خارج مدائح إعلاميي البلاط ورقص محظيّاته). ولا أن يتعاملوا مع لغة الفكر المجرّد. ولا أن يقبلوا صاغرين بسخرية هي من صلب الديمقراطيّة. من التشبيه الزامياتيني، لم يفهم المساكين إلا أنّهم «قردة» بالمعنى الحرفي… وأسقط في يدهم! معاذ الله يا جماعة الخير. «غوييم الشبات» (*) ربّما، لكن قردة…!؟ ولعلّهم تذكّروا كيف كان يصوّرهم الشهيد ناجي العلي، فزادت نوبة الهستيريا!
أن يغضب آل سعود، ليست هنا المشكلة. فمهمّتنا إزعاجهم، هم وسواهم، وإشعار الطغاة بالقلق وعدم الأمان. رسالتنا محاسبة الحكّام، ورفع الصوت باسم الحق، وهز أساسات العروش المستبدة، ونكء جراح الضمير العربي المخدّر، وكشف المسكوت عنه، وسط طغيان الاعلام الموحّد، المدجّن، النظيف، «المسالم»، ليس فقط في بلاد الضاد… لكنّ المشكلة في شكل الرد: السفارة السعوديّة تبدو اليوم على قدر من الجسارة والغطرسة يجعلانها تستسهل اللجوء إلى المحكمة لمحاسبة جريدة لبنانيّة على «جريمة» كتابة مقالة رأي ذات نبرة نقديّة. الشكوى الجزائيّة ضدّ «الأخبار»، سابقة خطيرة تشكّل تحقيراً للاعلام، وتهديداً حقيقياً للسيادة والديمقراطيّة. إن «مملكة الخير»، بعدما اشترت (بعض) النخب اللبنانية، ودجّنت (معظم) الاعلام، وخدّرت (الكثير من) الضمائر، وعلفت «الثوّار»، باتت تشعر ألا شيء يعيقها عن القضاء على البقيّة الباقية من الصحافة الحرّة في لبنان. حين لا ينفع شراء الذمم، يبقى القمع بالوسائل «القانونيّة» و«الديمقراطيّة». «مصادرة» قمر صناعي من هنا، وفرض وصاية قانونيّة على الصحافة من هناك. كلّنا ثقة بالقضاء اللبناني طبعاً، رغم هشاشته للأسف، شأنه في ذلك شأن كل مؤسسات الدولة المترنّحة. كما نراهن بقوّة على القضاة الشرفاء، وهم حفنة كافية لبقاء جذوة الأمل، لكن ينبغي أن يمتلك القاضي المستقل الكثير من الشجاعة والمثاليّة، كي يقامر بمستقبله المهني…
كل ما فهمه حاملو شعلة «التنوير» و«العقلانيّة» في ديار العرب، من مقالة سيف دعنا في «الأخبار»، هو أنّها «تبالغ في تحقير واحتقار المملكة، بملكها وحكومتها وشعبها، والقدح والذم بهم، بقصد النيل من هيبتهم وسمعتهم قدر الامكان». توقفوا معنا عند «تبالغ»، لو فعلنا ذلك باعتدال، لهان الأمر ولكن… توقفوا معنا عند «قدر الإمكان»، أي أننا بذلنا قصارى جهدنا، وما نتوصّل إليه من «أذيّة» يكون نعمة كريم. إن «الأخبار» توجّه إصبع الاتهام إلى الأنظمة الغاشمة، لكن أهل الجزيرة العربيّة أهلنا، وسنبقى ننتصر لهم حتى يزاح عن كاهلهم نير التخلّف والاستبداد وأيديولوجيا القرون الوسطى. أما الجرائم المدعى بها عليها، فتدعو إلى الابتسام: «تحقير دولة أجنبيّة ورئيسها ووزير خارجيّتها وشعبها»، إضافة إلى «تعكير صلات الدولة اللبنانيّة بدولة أجنبيّة».
بمعنى أخر لن يستطيع أي صحافي أن يكتب بعد اليوم أن السعوديّة هي بؤرة الأصوليّة والارهاب والتطرف، بأيديولوجيتها ومناهجها ومؤسستها الدينية. لن نستطيع أن نكتب أن النظام السعودي هو أكثر الأنظمة تخلّفاً وهمجيّة وظلاميّة وانحطاطاً على الاطلاق، في التاريخ المعاصر. لن نستطيع أن نكتب أن السعوديّة تقتل أطفال اليمن، وتسحق أحرار البحرين، وتساهم بشكل كبير في تدمير الحضارة السوريّة لتبني فيها «ديمقراطيّة» من النوع الذي خبرته هي منذ… «قرون»! لن يمكننا أن نرثي بعد اليوم الشهيد الشيخ نمر النمر الذي اغتيل ظلماً وكفراً بالعدالة وحقوق الانسان، ولا أن نتضامن مع المدوّن السعودي رائف بدوي (المحكوم بعشر سنوات سجناً وألف جلدة)، وعشرات الكتاب والمثقفين والناشطين في سجون آل سعود. بل لم يعد يحق لنا أن نطالب بحق المرأة السعودية في قيادة السيارة، من دون أن نسيء للقامات التاريخيّة العظيمة، ونعرّض مصالح دولتنا العليّة للخطر. تصوّروا مثلاً أن تحذو كل سفارات الديمقراطيّات العربيّة في بيروت حذو سفارة آل سعود، وتروح تطارد الصحف والمقالات والكتّاب، كلّما تعرض الكلام لـ«مآثر» أنظمتها الجليلة! ربما كان الأبسط، درءاً لوجع الرأس ومصاريف المحاكم، أن تنتدب كل سفارة عربيّة «مراقبين» يداومون في كل منبر اعلامي لبناني… أو أن نستبدل بصحافة الرأي اعلام الترفيه والكاباريه ونستريح!
كلا أيها السادة، لن نترك للفاجرين أن يملوا علينا حدود حريتنا. ولا أن يكتبوا تاريخنا. ولا أن يبيعوا حقوقنا. ولا أن يمزّقوا مجتمعاتنا. لن تصبح بيروت ماخوراً للطواغيت وسلاطين الجاهليّة. سنبقى نناضل كي يأتي يوم تقوم في نجد والحجاز وجدّة والرياض… نهضة فكريّة، ونظام ديمقراطي، ومجتمع منفتح تعددي، وإعلام حرّ ومستقل أكثر من الاعلام اللبناني. لذلك، يجب أن يكنّسكم التاريخ أولاً. حتى يزهق الباطل ويسقط نير العبوديّة عن شعوبنا، وفي طليعتهم أهل الجزيرة العربيّة!
(*) غوييم يوم السبت، أي عرب المهمات القذرة عند الاسرائيلي.

من المقال الذي أزعج آل سعود



مقال الزميل سيف دعنا الذي شكّل مادة ادعاء السفارة السعودية على دعنا و«الأخبار» ورئيس تحريرها ابراهيم الأمين، نُشِر يوم ٢٢ آذار ٢٠١٦، تحت عنوان: «ثم جاء نصرالله: عن آل سعود وعن جامعة القرود». في ما يأتي، مقطع من المقال، يضيء على جانب من فكرته الرئيسية:

(...)
بعد تسعة وأربعين عاماً على «النكسة»، وستة عشر عاماً على انتصار أيار ٢٠٠٠، وعشرة أعوام على انتصار تموز ٢٠٠٦، هذه هي الخلاصة: كان انتصارا حزب الله التاريخيان على العدو الصهيوني أكبر بكثير من أن يحتملهما نظام آل سعود والقوى المهيمنة على المنظومة العربية الرسمية المسمّاة «جامعة الدول العربية». فانتصار المقاومة لم يفضح قصور النموذج العربي الرسمي ولم يعَرِّ تواطؤه فقط، بل كشف وبوضوح عمق الارتباط البنيوي والمصلحي بين أقطاب المنظومة العربية الرسمية والاستعمار الصهيوني لفلسطين. فهذه المنظومة التي استولدتها الهزيمة وتطوّرت تدريجياً في أعقاب عام ١٩٦٧ كانت الرد الأكثر تشوّهاً على هزيمة العرب القاسية حينها، إن لم تكن الاستجابة الأكثر مثالية والتنفيذ الأكثر أمانة لشروط الهزيمة. كان تَشَكُّل هذه المنظومة الرسمية، وهيمنة آل سعود عليها تدريجياً، من أخطر آثار الهزيمة والعدوان، إن لم يكونا أخطرها على الإطلاق. ولأن انتصار أيار تحديداً، الذي أجمله السيد نصرالله بـ«إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، شكّل المحاولة العربية الجدية الأولى والوحيدة لإبطال مفاعيل الهزيمة المرة، فإنه كان في ذات الوقت، كما يبدو لنا اليوم، تحدّياً جدّياً لطبيعة المنظومة العربية الرسمية وماهيتها.
لهذا، إن أردنا أن نؤرخ لقرار آل سعود وجامعتهم باعتبار حزب الله «منظمة إرهابية»، علينا أن نبدأ من عام ١٩٦٧، وليس ٢٠١٦. فالقرار هو نتيجة لاستمرار وتصاعد مفاعيل الهزيمة في بنية المنظومة الرسمية العربية وتفاقم تماهيها مع مشروع الصهاينة الاستعماري في فلسطين. لا علاقة للقرار بأي دور لحزب الله في سوريا أو اليمن أو العراق، كما يدّعي أصحاب القرار ومن وافق عليه. هذه نظرة سطحية لا تبرر الهجوم على المقاومة منذ البداية، قبل أحداث سوريا واليمن والعراق، كما لا تبرّر أيضاً العدائية العربية الرسمية للمقاومة الفلسطينية منذ الستينيات (انظر مقالي هنا في «الأخبار» عن العداء للثورة الفلسطينية) أو تكفير الرئيس عبد الناصر «بالإجماع»، كما جاء في صحيفة «عكاظ» (العدد ١٠٢، ٢٣ أيار ١٩٦٢). هؤلاء، كما قال الشهيد غسان كنفاني، يحقدون على كل شيء ثوري، «من سبارتاكوس حتى تشي غيفارا». القرار مرتبط أساساً بدور حزب الله في فلسطين، ومن حاول، بالتالي، أن يأخذ موقفاً وسطياً بإعلانه تأييد حزب الله في فلسطين ونقده في سوريا كان جاهلاً بطبيعة القرار وأبعاده، إن كان حسن النية، أو كان متواطئاً سخيفاً في محاولة التذاكي على عقولنا، إن كان سيّئ النية. أما من كان موقفه الصمت والسكوت عن القرار من انتهازيين، فسيعرف قريباً أن القرار يطاله أكثر من حزب الله ذاته. حينها لا تلوموا إلا أنفسكم (ستفيدهم كثيراً قراءة كليلة ودمنة).
(...)