لم أكن أتصور أنني في يوم من الأيام، سأكون كاتباً له كتب في المكتبات. علاقتي بمحاولات الكتابة كانت علاقة محبة وهواية وعدم انتظام. بدأت في المرحلة الثانوية المتأخرة قرب نهايتها، واستمريت في المرحلة الجامعية. البداية كانت محاولات تتمنى أن تتشبه بالشعر، من دون علم عميق بالشعر سوى المحبة والتذوق، أي بلا فهم لقواعده العَروضية أو النقدية.
حاولت محاولات عاطفية كمعظم المراهقين، ثم محاولات إنسانية عامة وكانت هي الأغلب. أتذكر أن من أوائل المحاولات التي كتبتها كانت انفعالاً بخادمة تعيسة عند إحدى قريبات أمي، كانت تعطيها بقايا الطعام المتبقي منهم في الغداء وتجعلها تنام على بلاط المطبخ بعد فرش ملاية تعيسة.
تواصلت المحاولات بعد التحاقي بكلية الهندسة وتعاستي فيها بعد اكتشاف المصيبة التي رماني فيها مجموعي المرتفع ومحبتي لمواد الرياضيات. تصورت أنني يجب أن أكون مهندساً، وليتني ما فعلتها. كانت محاولات الكتابة والانغماس في تذوق الفنون عامة، هي الملاذ الذي أفزع إليه من معاناة يومي الهندسي المُحبِط. تعودت أن أشتري نوتة صغيرة، أتذكر كان ثمنها قرشين، تدخل بسهولة في جيب القميص بجوار قلبي المذعور. كلما عَنّت لي فكرة كتبتها فيها، في شكل أبيات شعر حديث على شاكلة شعرائي المفضلين أمثال صلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي. كانت أيامها رحى حرب فيتنام دائرة على أشدها ومصائبها تترى. كتبت ميلودراميات حول القصف الشرس للقنابل وحرق الغابات، وبالطبع موت ملايين الأطفال المساكين الذين ستُنبتهم الأرض خيراً ونماء في مستقبل الأيام.
تخرجت من كلية الهندسة وتم تكليفي بمصانع الحديد والصلب، ثم هربت إلى ليبيا للزواج ممن أحببتها والعمل هناك بعيداً عن الأهل والمجتمع الذين عارضوا جميعاً خطوة زواجي لمصاعبها الاجتماعية. هناك فى الغربة، واصلت عادتي القديمة في كتابة مشاعري المضطربة بانتظام، أيضاً في شكل يشبه الشعر. عملت ورُزِقت بطفلة وبقيت في ليبيا لسبع سنوات ثم عدت إلى القاهرة حائراً كعادتي.

بعد عودتي من ليبيا، بدأت أتردد
على جلسة الأستاذ نجيب محفوظ في «كازينو قصر النيل» كل يوم جمعة
لكني واصلت الإصرار على نبش الفراخ الذي أعتبره كتابة خاصة بي، كأنه فَش غِلّ. بدأتُ بعد عودتي في التردد على جلسة الأستاذ نجيب محفوظ في «كازينو قصر النيل» كل يوم جمعة. هناك، تعرفت بصديقي العزيز الشاعر عادل عزت. كان قد أصدر ديواناً بديعاً وأهداني إياه هو «المتصوفون الشعراء في الزمن العصيب». تُيّمتُ بهذا الديون وتوطدت أواصر صداقتنا، لا أدري ماذا دهاني لكي أطلع صديقي الشاعر المُجيد على بعض محاولاتي، وإذا به يُعجب ببعضها، وأنا صدقت، أو أسعدني طبعاً أن أصدق. اقترح عادل أن أحاول نشر قصيدة أعجبته عنوانها اتخذته في ما بعد عنواناً لديواني الأول «يوميات طابع بريد». اقترح أن آخذها للدكتور عبد القادر القط في مجلة «إبداع» في شارع عبد الخالق ثروت على ما أذكر. ذهبت وتركت القصيدة. سألت وعرفت اليوم الذي يحضر فيه الدكتور عبد القادر القط. تركت فترة وجيزة وعدت للسؤال، استقبلني الدكتور عبد القادر القط بترحاب برقته المعهودة. ولدهشتي، أبدى إعجابه بالقصيدة، ثم طلبها من السكرتير وقرأها بصوته، وهو يبدي إعجابه بأبياتها. دارت رأسي بعدما وعدني بنشرها. وفعلاً نشرها في مجلة «إبداع». اشتريت كمية من أعداد المجلة ودرت أوزعها كالممسوس على أفراد العائلة والأصدقاء. نسيت أن أحكي عن محاولاتي الجادة لدراسة علم العَروض بعد عودتي من ليبيا لرغبتي في الفهم والعلم. وقد ساعدتني طبعاً في أن أضع قدمي على أول درجات الشعر، بالإضافة إلى قراءة التراث والشعر طبعاً.
بعد تجربة النشر في مجلة «إبداع»، اقترح عادل عزت أن أجمع كل ما كتبته حتى وقتها. أنظر فيه وأراجعه وأنقحه، تمهيداً لاختيار بعضه ونشره في ديوان لي. تمنعت في البداية، وأنا أتمنى أن يلح عليّ. ألح وأبديت التنازل على مضض، كأني نزار قباني أو أبو الطيب المتنبي. جمعت ما وجدته من أوراق وقصاصات في ملف وصل إلى أكثر من ستين محاولة، راجعت وترددت وحذفت أكثر من نصف ما جمعت، ثم بدأت في إجراء تجارب قراءة واختبار على من أثق برأيهم من الأصدقاء. غربلت ما اطمأننت إليه واتكلت على الله. كان عادل عزت إلى جانب كونه شاعراً متميزاً، يمتلك مطبعة مع شريك ظريف اسمه الأستاذ تحتمس، استعرت اسمه عنواناً لرواية لي بعد ذلك. ذهبت إليهما وطلبت طبع كتابي الأول، ديوان شعر «يوميات طابع بريد». الأمر العجيب أنني قررت أن أصمم الغلاف بنفسي أيضاً. حالة من الجنون انتابتني، فتصورت أني أصلح أن أكون فناناً تشكيلياً بخبرتي في محبة الفن التشكيلي، واقتناء كتب الفنانين العظماء إلى جانب زياراتي إلى المعارض الفنية كلما سنحت لي فرصة سفر إلى الخارج، كالـ «متروبوليتان» في نيويورك، و«اللوفر» في باريس، ومتحف لرمبرانت في لندن. المهم جمعت عدداً كبيراً من المجلات المصورة وقدحت زناد فكري لأختار جزءاً صغيراً من لوحة أعجبتني. لوحة تبدو كونية، طلبت تكبيرها واستخدامها كلوحة غلاف، مع وضع إطار لطابع بريد وسطها، يكون مُفَرّغاً بلا صورة.
الأمر الأكثرعجباً أنني قررت وأصررت أن أكتب الخط بنفسي. أصدقائي تصوروا أنني أصبت بجنون العظمة. لا بأس. لم آبه لهم. سهرت منهمكاً في تأليف نوع من الخطوط خاص بي، لا أصل له ولا فصل. وقد كان الديوان قد صدر بأشعاري وتصميم غلافي وخط غلاف من ابتكاري. المهم أنني بعد نشر ثلاثة دواوين شعر ومسرحيتين شعريتين، لم أقتنع بنفسي كشاعر. تحولت إلى فن الرواية، فأصدرت أولاً كتاباً عن ذكريات طفولتي بعنوان «يوميات طفل قديم»، ثم انهمكت في كتابة الرواية فأصدرت حتى الآن 12 رواية. لكني لم أصمم أغلفتها، بل تركت معظمها لصديقي العزيز جودة خليفة والخطوط لحامد العويضي، رحمهما الله، لكم أفتقدهما.