«ضد بوالو» (Contre un Boileau) لفليب بيك، الصادر أخيراً عن «منشورات فايار» (باريس)، كتاب العمق والفكر نتصفّحه فننصت إلى متواليات نثرية تفكر. وحين نتعمّق في القراءة، يتبين لنا أن هناك أكثر من بوالو (1636 ــ 1711) واحد. بوالو الشكلاني وبوالو الناقد الغنائي. ثم نستيقظ فجأة، لنكتشف أن مائدة المواد التي يحتويها الكتاب المذهل، تترنم بغنى معرفي نادر اليوم. شاعر يكتب الشعر وينظّر ويتعقب مشروعاً. خصوصاً بعد العشرات من الدواوين والنصوص التنظيرية التي نشرها هنا وهناك، لا يمكن إلا أخذ المسافة وركوب صعوبة مفتوحة على الحقبة. فليب بيك (1963) في هذا الكتاب خلق رجّة في الشعر الفرنسي الحديث. حيث الرعشة (الشعر فن رعشة حسب فليب بيك) تتحول إلى رغبة في تجاوز ما يسود المشهد الشعري الفرنسي المعاصر. الأمر يذكر بمشهدنا الشعري العربي. غير أن المفارقة أن بيك بلور مشروعاً عميقاً ومخلخلاً في تخوم الكتابة الشعرية.
بابل المرعب أو نثر العالم الذي لم يعط شيئاً سوى خنق الشعر والزجّ به في دوامة الجميل الذي يتمتع باستراحة غير صحية، حيث العمود الفقري لهذا الكتاب يتجلى في الرد على بوالو الذي يرى أن الفكرة الواضحة من الممكن كتابتها بسهولة. أي أن القصدية تساعد بسهولة على كتابة القصيدة. هنا رقص القصيدة يكون عبداً لخطوة الفكرة قبل التعبير، حسب بيك. ثم الباب يصير مفتوحاً للنثر السهل. وهنا الرعشة في السؤال ترمي بنا حتماً نحو قراءة دواوين بيك وإعادة قراءتها. لأن الشاعر يشرح عبر الشعر وهذا نادر. لا يشرح كي يصير مفهوماً، بل يشرح العالم الذي يتبذر أمامنا في نثر ما. ربما حين تكون لنا فكرة ما عن الشعر، نتوقف أمام البيت الشعري le vers poétique. هنا إيقاع البيت يسبح في موجة فكرية ويسمح للقصيدة بأن تمشي على رجليها. شيء من قبيل الرعشة.
رأى «الفن الشعري» لبوالو النور سنة 1674. كتاب حاول في أبيات شعرية أن يقوم بعملية الفرز بين ما يليق وما لا يليق في الشعر. و«ضد بوالو»، كتاب فليب بيك، هو قراءة عميقة ومضادة لبوالو في فنه الشعري. من أجل كلايست نعم وضد بوالو أيضاً. استند بيك إلى هذا الحيز ليجيب كشاعر منظِّر عن أن الشعر لا يقطع مع الماضي، بل مع التقليد الذي يجسده بوالو في فنه الشعري. كتاب بيك برمته يتحرك في نسق الفكرة للدفاع عن الشعر معيداً له مكانته. لأن نثر العالم أضرّ كثيراً بالشعر، حتى أنه اختفى في جرّة حقد لا يفكر. وبين طيات هذا الكتاب، يقرأ فليب بيك ويحلل كلاً من لا فونتين وكلايست وبوالو وفرنسيس بونج وجيرار جنيت وآخرين. وما يذهل أكثر، كما ذكرنا أعلاه هو هذه المعرفة الضاربة في العمق التي تسقي الفلسفة بماء الشعر، ثم تصير النظرية حية وحييّة في الشعر الحي أيضاً.

يحلّل لا فونتين وكلايست وبوالو وفرنسيس بونج وجيرار جنيت وآخرين

امتداد الواحد في الآخر. النظرية تفترض التطبيق. «ضد بوالو» يفترض كتابة الشعر. والشعر في فن فليب بيك الشعري قضية فكر وليس قضية رأي. فهو لا يقدم تاريخاً أدبياً للشعر أو للنثر؛ بل يُحرج المشهد بطرحه الأسئلة الآتية بشكل غير مباشر (مع العلم بأن كل المشروع البيكي Beckien يمارس ما يمكن حمله ونقله من حقبة إلى أخرى. الجسور مفتوحة وصالحة للعبور بين الماضي والحاضر دون السقوط في التقليد كما أشرنا): لماذا كتابة الشعر؟ هل من الممكن أن يكون البيت الشعري le vers مستقبلاً أم أفقاً أمام نثر العالم؟ كيف التخلص نقدياً من غائية غارقة في ذاتية أنيقة من أجل كتابة غنائية موضوعية؟ وغيرها من الأسئلة التي يثيرها كتاب «ضد بوالو». فليب بيك يعارض بوالو الذي يعتبر، بموقف مدرسي، فنه الشعري «وصفة مطلوباً التفكير بها بشكل لائق قصد القول بشكل أحسن». والحل ربما حسب فليب بيك يتجلى في زواج القصيدة والتعبير، بينما يفرّق بوالو بينهما. غير أن بيك يصدّ ذلك ليقف بجانب كلايست لأنه يبلور فكرة «التطور التدريجي للفكر في الخطاب». إنها مسألة إيقاع إذن، حيث «الإيقاع هو الذي يحدد بلاغة ما». قوة فليب بيك في هذا الكتاب تكمن أساساً في فنه الشعري المفتوح. تأمل ومعرفة دقيقة وعميقة وصعبة وطازجة. فن شعري على طريقة بيك الذي يعيش فعلاً في حقبته/ حقبتنا. فن شعري للشاعر المتأمل والمفكر في تناقضات الحقبة الشعرية ليرفع الحجاب عما يحدث من خلل وعطب أحياناً. يدعونا فليب بيك إلى طرح السؤال الآتي: هل نعرف ما الذي تعنيه كتابة قصيدة اليوم؟ ظلُّ ملارميه يخيّم لكن بشكل آخر.
يمارس فليب بيك النظرية لينير طريقه هو في القصيدة. يجترح أفكاراً نظرية قصد ممارسة شعرية فريدة في القرن الحالي. رامبو كان وبيك يكون دون قطيعة. ما بقي من عالم مكسور يحضر بالقوة في كتاب فليب بيك الذي يستحضر بكيت Beckett الذي حاول أن يعطي لتبذير العالم شكلاً.
ونحن نقرأ «ضد بوالو»، تحضرنا كل أعمال فليب الشعرية. سياسة القرب من ضد بوالو تستوجب قراءة «أشعار ديدادكتيكية» و»عن التنقيحات» مثلاً (عنوانان لديوانين مذهلين لبيك»). قد نجازف بالقول إن الكتاب الذي نحن بصدده، يشكل تدويراً وإعادة كتابة دواوينه بشكل نثري مفتوح (النثر الواحد لا يوجد كما يقول بيك). كل كتاب يخضع يمتثل إلى فكرة ما. أليست فكرة كتاب «ضد بوالو» هي لا فونتين كمستقبل للبيت الشعري؟ ربما وفي نفس الوقت يؤدي بنا هذا السؤال إلى ماهية الشعر. كيف يمكن أن يُكتب أمام وضد نثر العالم. فن الشعر البيكي Beckien ضد بوالو منجز ضروري. في الكتاب عمودية الخطاب تأخذ المسافة، تتمرأى في البعد أيضاً وتحاور. كل كلمة في الكتاب تجاور الأخرى دون محوها. وكأنها في إنسانية أخرى Rhumanité (كلمة من مخّ فليب بيك) تمارس تفكيك الحاضر قصد تمرير الماضي، أما التقليد فلا. نقرأ ونتوقف كما لو في دواوينه. فقاعة فكر وعينٌ جمجمية.