ترجمة سعدي يوسفكانت هَرَر، موقعَ حكايةٍ صغيرةٍ غريبةٍ، كأنها ضمن كتاب بورخيس Ficciones، حكاية بإمكاننا أن نسمِّيها «المنفى».
ما دامت الوحدة وضعاً بشريّاً، فإن المثال الصارخ للغريب الكامل هو الرجل الأبيض في أفريقيا السوداء، وحيداً في موضعه، شخصاً غير مرغوبٍ فيه. الأشدّ بياضاً من هؤلاء هو الشاعر الشهير، يعيش مجهولاً، في بلدةٍ مسوّرة، بين سُودٍ أمّيّين، وجَهلةٍ عليه أن يكسبَ احترامَهم باعتباره رجُلاً. كان متكسِّباً متوحداً في مجتمعٍ منظَّمٍ من النخّاسين. رأسه يضجُّ بالشطحات السرياليّة، والتعابير الشرّيرةِ، بالرغم من أنه لاينطق بلغتِه إلاّ متكتِّماً.

الأفارقةُ لا يرونه إلاّ إفرنجيّاً عليلاً آخرَ، في بدلة مهلهلةٍ، يتجوّل في السوقِ المنتن، ويراقبُ المجذومين يزحفون طالبين الصدقةَ عند المسجد، ويسير في الأزقة ذات بَعر الماعز، وودَكِ الجِمال المعلّق في المجزرة.
حتى المرأةُ القرويّةُ ذاتُ وجه الثعلبِ، وغطاءِ الرأس الشفيف، التي اتّخذَها عشيقةً، لم تعرف تاريخه. وهو أيضاً لم يعرف تاريخَها، كانا ضِدّينِ: أسود وأبيض. لكنهما احتَكّا ببعضهما. ربما كان سفره معها (إلى عدن بين وقت وآخر) دليلاً على أنه كان يحبُّها. لقد صوّرَها فوتوغرافيّاً مغامرٌ إيطاليٌّ، وهي وصفتْ حياتَها مع الإفرنجيّ: ولَعه بالتصوير الفوتوغرافي، كتبُه، خرائطه، هِميانُ نقودِه ، الرسائل التي كتبَها، وكيف كان يكره أي حديثٍ عن ماضيه. ليست لديها أدنى فكرةٍ عن أصلِه. قال إنه أحبَّ الصحراءَ. كانت تجهلُ أنه تنبّأَ بكل العيشِ الغريبِ، منذ سنين، في قصائدَ وحشيّة، رؤيَويّة.
الشاعرُ في التاسعة عشرة الذي كتبَ «ينبغي أن نكون مُحْدَثِين تماماً» هو الآن يكاد يكون في الثلاثين، وقد شابَ قبل الأوان، يدوِّنُ بضرباتٍ من قلمٍ حادٍّ، في سجِلِّ شركةٍ، أوزانَ أنيابِ الفيَلة، وأكياسَ البُنِّ، التي ستحملُها قافلةُ جِمالٍ إلى الساحل. حماساتُه غير المتوقَّعة وضعتْه في حالةٍ فريدةٍ، شأنها شأن لونِه – نُطقه اللغة العربية، معرفته القرآن، شغفه بالفوتوغراف؛ لقد قطعَ إقليمَ «دناقل» الخطِر، واستكشفَ بيداء أوغادين، وكتبَ عن مسالكِها العنكبوتيّة وواحاتِها القليلة.
وقد كتبَ بعد رِحلةٍ شاقّةٍ «لقد ألِفْتُ كلَ شيء. أنا لا أخافُ شيئاً».
أثمانُ البنادقِ أمرٌ آخرُ درسَه. لم يكن عربُ هَرَر أشدّ فضولاً ممّا هم عليه الآن. الفرنجةُ يأتون ويغادرون. لكن هذا المرءَ ظلّ بين جيئة وذهابٍ، سنواتٍ عَشراً، يسكن بيوتاً متواضعةً. كان يكره الطعامَ. لا أحد عرفَ ما في قلبِه، ولا سمِع تمتماتِه الساخرةَ، أو فهمَ قدرتَه على الكتمانِ. لقد أنكرَ ثروتَه، مدّعِياً أنه تعرّضَ للغشِّ، بينما كان يكدّسُ أكياساً من نقود ماريا تيريزا، وبنكنوت المَلِك.
في ما بَعدُ، قصَدَه مبعوثو منيليك، يتوسّلون بنادقَ وذخيرةً جاء بها في قوافل من الساحل. لقد عرفَ ماكونين والدَ هيلاسيلاسي. لقد ساومَه الملكُ شخصيّاً، وأعانه في أن يغدو ثريّاً.
أسوأ يومٍ في حياته جاءَ هكذا:
في زورةٍ لعدَنٍ واجهَهُ مستخدِمُهُ الفرنسيُّ الكريهُ. كان الرجل متنفِّجاً بأخبارٍ مدهشةٍ.
فقد أخبرَه صِحافيٌّ فرنسيٌّ جوّاب أنه عرفَ اسمَ مستخدَمِه.
اتّضَحَ أن التاجرَ المغمورَ كان فتى فرنسا العبقريّ، الشهيرَ بالشاعرِ المنحطّ.
كان الكشفُ مثل دعابةٍ شنيعةٍ، فهذا الرجلُ الوسَطُ، الخاملُ، كان مذاقَ باريس الأدبِ. أبسِنثْ. سُكْرٌ. عربدةٌ. شِعرٌ حُرٌّ!
المستخدِمُ عنّفَه على هذا الانحراف.
تاجرُ البُنِّ المريرُ في الموضعِ الأفريقيّ المتقدِّمِ... شاعرٌ!
أخيراً امتلكَ الريِّسُ شيئاً ضدّه.
المنفيُّ أنكرَ ذلك. «أنا آخَرُ»... قد كان كتبَ هذا يوماً ما.
لكنّ المنفى وضْعٌ لا ينفعُ فيه التلاعبُ بالكلماتِ.
هكذا أقَرَّ، أخيراً، بما كان عليه، إنه اللامعقولُ، و«قد تخلّصتُ منه الآن».
أنت تمضي إلى أقاصي الأرضِ لتبدأ حياةً جديدةً، وتظنُّ أنكَ أفلحْتَ، وإذا بالماضي ينقَضُّ عليك، كما لو أن عدوّاً قديماً أمسَكَ بهاربٍ.
لقد كان سعيداً في مجهوليّتِه، تماماً مثل رجلٍ أبيضَ في الغابةِ.
إنه الآنَ عارٍ.
هكذا، رامبو في هَرر.
* (من كتاب بول ثيرو Paul Theroux سِفارٌ في النجمِ الأسود Dark Star Safari).