سنحاول في هذه الورقة تقديم فكرة عن وضع المياه في تونس وعن السياسات المتبعة في هذا المجال منذ الستينيات وحتى وقتنا الحاضر. حتى وإن اعترضتنا مشكلة صحية أو تحيين المعطيات الإحصائية الرسمية، فان ذلك لن يمنعنا من تقديم وجهة نظرنا النقدية لهذا الوضع ولهذه السياسات التي لم تخدم ـ سواء كانت في شكلها التسلطي البيروقراطي أو النيوليبرالي ـ لا البلد ولا المواطنين، وإنما مصالح تتنافى مع السيادة الغذائية للشعب التونسي وحقه في الحصول على المياه وفي إدارة هذا الحق بالطريقة التي يريدها.
تبلغ مساحة تونس 164.000 كلم2، وتعدّ وفق آخر تعداد أجري في العام 2014 حوالي 11 مليون ساكن يقطن أكثر من 70 % منهم في المناطق الحضرية. كما تعتبر تونس عموما بلدا شبه جاف يبلغ المعدل السنوي للتساقطات فيه 220 م2، أي ما يعادل 36 مليار متر مكعب. في حين تبلغ كميات المياه المعبأة حوالي 4.8 مليار متر مكعب، وجّهت 80 % منها إلى قطاع الزراعة المروية التي تغطي حوالي 480 ألف هكتار. أما البقية، فتوزع وفق الأرقام الرسمية (2010) كالتالي :
14% للمياه الصالحة للشرب
5% للصناعة
1% للسياحة
تمت تعبئة هذه الموارد بفضل بنية تحتية مائية مكونّة من 30 سداً كبيراً و224 سداً أصغر حجماً وعدد من البحيرات الجبلية وآلاف الآبار السطحية والعميقة والتي تتجاوز ما هو مصرّح به رسمياً.
مع ذلك، لم تمنع هذه الإستثمارات الضخمة في البنية التحتية المائية من أن تعاني تونس من الفقر المائي المطلق، باعتبار أن نصيب الفرد فيها يبلغ وفق الأرقام الرسمية أقل من 385 م2 في السنة.

على صخرة ناتئة
كانت تستلقي النمرة، فسميت باسمها


كما تعاني هذه المياه من مشكلة ارتفاع الملوحة وتدهور جودتها، إضافة إلى تلوّث هذه الثروة، بسبب التوسع العمراني والصناعات الملوثة وعلى راسها أنشطة استخراج وتحويل الفوسفات التي سممت المائدة المائية في الجنوب، وكذلك السواحل الجنوبية الشرقية، إضافة إلى مخاطر الصناعة البترولية وخصوصاً تهديدات استعمال تقنية التكسير المائي fracking لاستخراج الغاز الصخري أو الزيادة في إنتاجية آبار البترول والغاز التقليدية.
رافق البنك الدولي الحكومات المتعاقبة منذ الستينيات لتقديم التمويل والتصورات. وقد كان الخيط المنظم لهذه السياسة المائية التونسية توفير الموارد لخدمة المشاريع التنموية (التصديرية)، أي تجهيز الآبار والسدود لتمكين المناطق المروية من زيادة إنتاج الزراعات التصديرية في الشمال والوسط ولإعطاء الأولوية لتوفير المياه للمناطق السياحية المحدثة في عدد من المناطق الساحلية ولتزويد النزل بالمياه والخضر المنتجة من المناطق المروية.
كما تم تحويل المياه الموجودة في الشمال بفضل مياه وادي مجردة الدائمة لتسديد احتياجات توسع المناطق الحضرية والصناعة والفلاحة في جهة الساحل والجنوب الشرقي.
اضافة الى ذلك فقد حفر عدد من الآبار العميقة جدا لاستغلال المياه الجوفية الاحفورية وغير القابلة للتجدد والكائنة بأقصى الجنوب التونسي لإنشاء واحات تختص في الزراعات الجيوحرارية.
بعد سيطرة تامة للإدارة على هذا القطاع والذي ما زال يخضع حتى يومنا هذا الى 4 إدارات كبرى تابعة لوزارة الفلاحة إضافة الى شركتين عموميتين وبعض الإدارات في وزارة البيئة، علاوة على السلطة الرقابية لوزارة الصحة. وقد عرف ميدان المياه بعض التغيرات في اتجاه أكثر ليبرالية ترسخ اثر برنامج التعديل الهيكلي الذي فرضه صندوق نقد الدولي على تونس العام 1986 (فرض برنامج تعديل ثاني بعد سنة 2011 ) وكان عنوانه الأكبر التخلي عن المركزية وتفويض الإدارة لجمعيات مائية بلغ عددها أكثر من ألف وخمسمائة يهتم اغلبها بإدارة توزيع مياه الري بين مستغلي المساحات المروية والقليل منها بتوزيع المياه الصالح للشرب للسكان في بعض المناطق الريفية.
تعددت المشاريع والاستراتيجيات، ولم يبخل لا البنك الدولي ولا البنك الأوروبي ووكالة التمنية الفرنسية أو الوكالة الألمانية للتعاون في تقديم القروض ووضع التصورات التي عدلت مرات عدة قانون المياه الصادر العام 1975 واضافة مجموعة من القوانين والأوامر والمواصفات نحو أكثر ليبيرالية وسلعنة قطاع المياه وإقرار الزيادة المستمرة للتسعير باسم الحفاظ على الموارد للأجيال وفرض المشاريع انطلاقا من هبات مسمومة هدفها مزيدا من القروض.
وكانت الحلقة الأخيرة في هذا المسار هو مشروع قانون المياه الجديد الذي انطلق العام 2009 وعرف تغيرات عدة كان آخرها نسخة المشروع المؤرخة في أيلول من العام الماضي، والتي دمجت كل أساسيات التصور النيوليبرالي من تحويل المياه إلى بضاعة لها قيمة اقتصادية وتبادلية يكون التصرف فيه «مندمجا».
لقد واكب مشروع القانون هذا ترسانة من «الإصلاحات» النيوليبرالية التي فرضت انطلاقا من قمة دوفيل للثمانية الكبار العام 2011 تحت مسميات الشراكة بين القطاعين الخاص والعام وقانون الإستثمار المركزي، إضافة إلى مشاريع قوانين تهم التدبير المفوض في مستوى السلطة المحلية والجهوية.
لم تواكب هذه المشاريع لا الدستور التونسي الذي ضمن الحق في المياه ولا المعاهدات الدولية ولا حق التونسيين والتونسيات اللامحدود في سيادتهم على غذائهم وعلى ثرواتهم الطبيعية، ومنها المياه.
يعاني التونسيون في عدد من المناطق من غياب المياه الصالحة للشرب والذي طال حتى المدارس مما دفعهم الى الاحتجاج والتظاهر، مطالبين بتمكينهم من الحق الانساني الأساسي الذي سلبتهم إياه الحكومات الفاسدة والادارات المتعاقبة وخططها المعادية لمصالح المواطنين والضامنة لحقوق سارقي الثروات من مؤسسات مالية عالمية والدائنين بمعية منظمات دولية مثل الفاو النموذج الاستخراجي المدمر ووصايا وفاق واشنطن المخربة والتي فاق خرابها آثار الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية.
الشعب يريد استرداد ثرواته من جديد.
* جمعية ايكولوجيا للبيئة الزراعية الخضراء في تونس