تصلُ الحافلةُ العامّة إلى حمص قادمةً من اللاذقيّة بعد رحلةٍ استغرقت أربع ساعات، وهو زمنٌ طويلٍ قياساً بالمسافةِ بين المدينتين (178 كيلومتراً). «في الحروب تغدو المسافات أطول ممّا هي عليه في الواقع»، تمكن استعارةُ هذه الجملة محوّرةً عن أخرى تُكتب عادةً على مرايا السيّارات. تلخّص الجملةُ حال السفر بين أيّ مدينتين سوريتين في ظل الحرب، فالزمن لم يعد مرتبطاً بطول المسافة فحسب، بل يتعدّاها إلى عدد الحواجز والظرف الأمني الذي يتغيّر بين فترة وأخرى وتتغيّر معه تعقيدات الإجراءات على الحواجز.
وكما وسّعت الحرب المسافات بين المدن، فعلَت فعلها في ما يتعلّق بالمسافات الرمزيّة بين السوريين أنفسهم وفي نواحٍ عدّة، على رأسها الموقف من التطورات التي تشهدُها البلاد بين مرحلة وأخرى، الأمر الذي ينطبق على الفجوات الاقتصاديّة الهائلة بين الشرائح، كما على الظرف النفسي العام بين سكّان مدينة وسواها، وحتى على القوانين وآليات تطبيقها المختلفة (حين تُطبّق) بين منطقة وأخرى. تأسيساً على ما سبق، سيكون طبيعيّاً أن تتباين آراء السوريين في ما يدور في حمص هذا اليوم (الثامن عشر من آذار 2017). أمام «رمزيّة» التاريخ ستبدو مباشرة تطبيق اتفاق الوعر في هذا اليوم تحديداً أمراً أكبر من المصادفة، لا سيّما أن الحيّ يُعدّ «آخر معاقل المعارضة» في المدينة التي دأب المعارضون على تسميتها «عاصمة الثورة». وبينما تنطلق عمليّات الإجلاء مستقطبةً اهتمام معظم وسائل الإعلام، محليّة وعربيّة وعالميّة، تواصل المدينة دورة حياتها اليوميّة كما يليق بمدينة أنهكتها الحرب وخلّفت فيها دماراً كبيراً على مختلف الصعد. الحركة الخفيفة في معظم الطرقات ليست أمراً مستغرباً في يوم عطلة (السبت)، لكنها في الوقت نفسه أنشط مما شهدته المدينة في مثل هذا اليوم من العام الفائت، لا سيّما في وسطها التجاري. ورغم أن حدّة الاستقطاب السياسي استمرّت فترة طويلة من عمر الحرب بوصلةً لتقييم تطوراتها لدى السوريين، غير أنّ «المواقف» في العام الأخير (على وجه الخصوص) لم تعد نابعة بالضرورة من الرأي السياسي بقدر ما تبدو مرتبطةً بتأثّر أصحابها بالحرب. الفئات الأكثر اكتواءً (الأمر الذي ينطبق في الدرجة الأولى على المقيمين داخل البلاد) تجد في الاتفاقات مدعاةً لراحة منبعها أملٌ بتضييق مساحات الحرب، فيما تجد فئات أخرى في اتفاقات مماثلة «تهجيراً ممنهجاً». وليس ما شهدته حمص في ذلك اليوم سوى مثالٍ تكمله أمثلة كثيرة أخرى، أحدثُها ردود فعل السوريين على المعارك التي استعرت في اليوم التالي في العاصمة دمشق، وكلا المثالين ليس ببعيد عن ثالث كانت حلب مسرحاً له أواخر العام الماضي. ومع الإشارة إلى أنّ التعميم يبدو ضرباً من العبث في ظل انعدام إمكانية إجراء مسوحات منهجيّة قائمة على أسس علميّة وظروف موضوعيّة، تبقى «المشاهدة» قادرةً على فرض جملة ملاحظات حول الواقع المجتمعي السوري في ظل الحرب. ومن بين أهم الملامح التي يمكن رصدها أنّ الحرب خلال السنوات الست المنصرمة قد فرضَت نفسها في الدرجة الأولى على البنية المجتمعيّة السوريّة، لتخلّف تدريجيّاً امّحاءً لما تمكن تسميته «رأي عام يفكر في الخلاص الجمعي» في مقابل هيمنة آليات تفكير تنشد «الخلاص الفردي» ثم «المناطقي». وخلافاً لما دأب كثير من وسائل الإعلام على تصويره، فإنّ «المناطقيّة» هنا لا ترتبط بمُعتقد أو قوميّة أو طائفة تشكّل أكثرية هنا أو أقليّة هناك، بقدر ما ترتبط بجغرافيا المعارك واقتراب الخطر أو ابتعاده، ومصدر ذلك الخطر. ويتصدّر الهم الاقتصادي قائمة أولويات الشارع السوري اليوم، وتشاركه الهموم الخدميّة المرتبطة بأساسيّات الحياة، من ماء وكهرباء وسواها. وباستثناء طبقة المستفيدين من «اقتصاد الحرب»، تبدو البلاد مقسومة إلى قسمين: متضررين في قلب النار، ومتضررين على أطرافها. وتشير أحدث التصريحات الصادرة عن برنامج الأغذية العالمي إلى أنّ البرنامج يقدّم مساعدات لـ«قرابة أربعة ملايين شخص، إضافة إلى دعم ملايين اللاجئين السوريين بالمنطقة»، لكن ذلك لا يبدو كافياً. وبحسب مدير مكتب البرنامج في سوريا، جاكوب كيرن، فإن «ثلاثة أرباع السوريين بحاجة إلى المساعدات الإنسانية». ووفقاً للمفوض السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، فقد «زاد عدد المشرّدين داخل سوريا على ستة ملايين مشرّد».

لا يبدو اللاجئون بحال أفضل... إلا في ما يتعلّق بالأمان الظرفي
ولا يبدو اللاجئون السوريون الذين اضطرّتهم الحرب إلى مغادرة البلاد بحالٍ أفضل من قاطنيها، إلا في ما يتعلّق بـ«الأمان الظرفي». ووفقاً للمصدر ذاته، فقد ناهز عدد اللاجئين حاجز الخمسة ملايين لاجئ، مع إشارته إلى «ملايين آخرين داخل سوريا يعيشون في حالة خوف يومية من هذه الحرب ويعانون من القسوة التي خلقتها». وأشار غراندي إلى أن «الأطفال يمثلون نصف عدد سكان سوريا، وأن ثلث الأطفال السوريين ولدوا بعد نشوب الصراع». وعلاوةً على الحرب بوصفها عامل انهيار أوّل، تلعب العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على البلاد دوراً كبيراً في تردّي الواقع الاقتصادي. وتجلّت أحدث الانعكاسات الملموسة لتلك العقوبات قبل فترة وجيزة في صورة رفعٍ «رسمي» لأسعار الأدوية وصل في بعض الأصناف إلى ثلاثة أضعاف. ويأتي رفع أسعار الأدوية ليكمل صورةً سوداء لواقع الرعاية الصحيّة في البلاد. ووفقاً لما نقلته إذاعة الأمم المتحدة أخيراً عن إليزابيث هوف، ممثلة منظمة الصحّة العالمية في سوريا، فإن «أكثر من نصف المستشفيات العامة ومراكز الرعاية الصحية الأولية في سوريا إما مغلقة أو تعمل بشكل جزئي». ويضاف إلى ذلك أنّ «75٪ من المهنيين في مجال الصحة، بمن فيهم المتخصصون اختصاصات عالية مثل أطباء البنج والجراحين، غادروا البلاد، فيما انخفضت تغطية عمليات التلقيح من 95٪ إلى أقل من 60٪». ووفقاً للمصدر نفسه، فقد كانت سوريا «تتمتع بأفضل مؤشر صحة في منطقة الشرق الأوسط» قبل الحرب. وتتصدّر الفئات الأكثر هشاشة قائمة المتضررين بطبيعة الحال. ورسم آخر بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) صورة شديدة القتامة في ما يتعلق بقطاع الطفولة. ووفقاً للمنظمة، فإن «الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في سوريا قد وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في عام 2016». وازداد معدل مقتل الأطفال خلال العام الفائت بنسبة 20% عمّا كان عليه في العام الذي سبقه، حيث «قُتل 652 طفلاً على الأقل، ليصبح العام الماضي الأسوأ لأطفال سوريا منذ بدء الرصد الرسمي لضحايا الإصابات من الأطفال». وقال بيان اليونيسف إن «الكثيرين من الأطفال يموتون بصمت، غالباً بسبب أمراض يمكن تجنّبها بسهولة، في ظل صعوبة الحصول على الرعاية الصحية والإمدادات المنقذة للحياة». وتتسابق مع العقوبات عوامل عدّة، على رأسها الفساد الذي لا يُعتبر جديداً من حيث المبدأ، لكنّ الحرب شكّلت تربةً خصبةً لـ«ازدهاره». وكما تركت هذه العوامل بصمتها على مناطق ما زالت ترزح تحت الموت المباشر اليومي وتعيش ظروف حصار خانقة مثل دير الزور والغوطة وكفريا والفوعة، خلّفتها أيضاً في مناطق أخرى صارت إلى حدّ ما بعيدةً عن النار مثل حلب، الأمر الذي ينطبق أيضاً على مناطق لم تشهد معارك مباشرة لكنّها عرفت جوانب أخرى من مصائب الحرب مثل سلميّة وجبلة وسواهما. وحمل العام السادس معه تفشّي مظاهر تصبّ في مجملها في خانة هيمنة سطوة السلاح، في مقابل تزايد انحسار دور القانون بمعناه المؤسسي في بعض مناطق سيطرة الدولة السوريّة. في المقابل، يبدو الواقع شديد السوداوية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، والخاضعة لمجموعات مسلّحة شتى، ومن دون أن يشكّل «الانتماء العقائدي» لتلك المجموعات أيّ فارق. وتتساوى في ذلك مناطق سيطرة «جبهة النصرة» مع مناطق سيطرة «داعش» مع سواها، حيث تغدو سلطة السلاح في تلك المناطق مطلقةً وصلاحياتُ حامليه غير قابلة للنقاش.




ثكالى الحرب مستعدّات للمسامحة

خلال «استمزاج» طبّقته «الأخبار» على عشرين سيّدة سوريّة (من جميع المحافظات، وكلّ منهنّ فقدت شخصاً واحداً على الأقل خلال الحرب) حول «تشخيصهنّ» لحال البلاد، تمحورت آراؤهنّ جميعاً حول مطلب واحد: «وقف الدم». ورغم أنّ هذا المطلب لا يبدو مستغرباً بالنظر إلى سمةٍ عاطفيّة طبعَت معظم الإجابات، غيرَ أنّ بعض الإجابات تضمّنت آراءً شديدة الواقعيّة حول «المسامحة» و«المحاسبة» وعدم تعارض المفهومين. وأبدت أربع عشرة سيدة استعدادهنّ للمسامحة «من دون أي شرط»، فيما قالت إحداهنّ إنّ «الإجابة غير ممكنة في الوقت الراهن، فجرحي ما زال طريّاً (فقدت السيدة طفلاً قبل شهرين فقط)». وردّت أخرى بالقول إنّ «الأمر مرتبط بتوقّف الحرب، كلّما سقط ضحايا جدد أجد نفسي منخرطة في البكاء وأدعو على من كان سبباً في استشهاد زوجي. ربّما اختلف جوابي إذا كان توقف الحرب هو المقابل». ومن بين الإجابات اللافتة ما قالته سيدة حلبيّة أربعينية: «ما تسألني إلي، اسأل حدا بعدو عايش، أنا مات قلبي». كذلك تبرز إجابة سيدة ستينيّة من اللاذقيّة حول «الطائفيّة» ودروها في الحرب، حيث قالت السيدة «اليوم سوريا ما عاد فيها غير طائفتين: طائفة أولاد الحرام، وطائفة الـ يا حرام». وتلخص إجابة السيدة بعفوية كبيرة واقع المجتمع السوري على أبواب العام السابع من أزمتها حيث ضحايا الحرب من كل الألوان، الأمر الذي ينطبق على تجّارها ومجرميها وأثريائها ومُعدميها ومقهوريها.