في منتصف السبعينيات، حمل بهاء طاهر (1935) حقائبه ليبدأ رحلة منفى إجباري طال لأكثر من نصف قرن، في إطار «تغريبة المثقفين» التي بدأت مع وصول السادات إلى السلطة ولم تنته باغتياله. كان وزير الثقافة يوسف السباعي حينها قد رفع شعار «تطهير الإذاعة من الشيوعيين» ولم يجدوا غير بهاء!هذه الحكاية هي المركز الذي ينطلق منه بهاء طاهر فى مذكراته التي كتبها أخيراً تحت عنوان «السيرة في المنفى» الصادرة عن داري نشر («بردية» و«مصر العربية»). يتذكر صاحب «الحب في المنفى» تفاصيل الحكاية: «أبلغت أني الوحيد الذي أهدر دمه في الإذاعة، توقفت طويلاً، تأملت هذا الاستنفار العدائي تجاهي بدهشة، لم أكن أعرف أني شيوعي إلا عن طريق هذا القرار... كان يمكن أن يصبح الأمر مجرد قرار عليّ تقبله لو أنّي شيوعي بالفعل، ولكني بعدما سألت نفسي: هل أنا شيوعي؟ ثم قلت لنفسي: لعلهم يعرفونني أكثر مّما أعرف نفسي»!
كان القرار غريباً بالنسبة إلى بهاء، بسبب علاقة الصداقة القوية التي ربطته مع يوسف السباعي: كانا صديقين، وجلسا معاً قبل أيام من قرار الاستبعاد، تمازحا كالعادة، ولم يتطرق حديث السباعي إلى أمر التطهير من قريب أو بعيد. وهكذا كان الدرس الذي وعاه بهاء: «ما أمكر رجال السلطة ولو كانوا من أصدقائنا»!

غادر بهاء مصر تاركاً خلفه أشياء كثيرة: «صدق وجموح وبراءة ووجوه كأنها منقوشة على حجارة معبد». ولكن هناك أشياء أخرى كان من الصعب أن يتركها خلفه: «لا يمكن إلا أن ترتحل معنا أينما كنّا، ذكريات ربما، مواقف بعينها، حكايات». من هذه الحكايات، صاغ صاحب «خالتي صفية والدير» سيرته الذاتية. حكايات عن الأب والأم، المكان الأول والحب الأول، عن القرية والناس والبيوت والجبل والمعبد والزرع والطين. يجمع بين كل هذه الحكايات أنها عن الغربة، والحنين، ومنها صاغ مشروع سيرته الذاتية!
مبكراً، بدأت غربة بهاء حتى من قبل أن يولد، عندما ترك والده قريته الكرنك في الأقصر (جنوب مصر) مرتحلاً بين المحافظات المختلفة، لكنه ظل في حنين دائم إلى أرضه: «ظل أبي يصبو إلى بناء بيت في قريتنا في الصعيد حتى مماته». يسأل بهاء: ماذا لو لم يترك أبي الأقصر ويرتحل بين البلاد ليستقر به المقام في الجيزة؟ هل كان مصيري سينصرف لسكة مغايرة؟ هل كنت سأعرف معنى الغربة مبكراً؟». ربما، كما يقول: «كنت سأظل كما أنا، محمد بهاء الدين طاهر ابن الناظر، أفندي في غالب الأمر لو استتب الأمر». الإشارة إلى الاسم تكشف عن غربة أخرى، اختار له الأب اسم «محمد بهاء الدين». هذا الاسم المركب كعادة الأسماء في تلك الفترة، كان دائماً يشعر تجاهه بغربة... يسأل والده: لماذا هذا الاسم يا أبي؟
لكن غربة المكان، وترحال الأب لم يجعل من بهاء مجرد «أفندي» أو «مزارع» دفعته إلى التعليم، ثم إلى الكتابة ليختار هو اسماً جديداً له «بهاء طاهر». في افتتاحية السيرة، يكتب: «قبل أعوام، كان اسمي محمد بهاء الدين طاهر... أجل هذا الاسم المركب. وهذا أنا، أو لعله ما سيتبقى ولو بعد حين». كأن في العودة إلى الاسم القديم مصالحة مع ماضٍ من الترحال!

غربة عامرة بالأسى، وبالتجربة الحية والمخزون الوفير

يحكي بهاء عن حبه الأول سندس، غجرية تكبره بعشر سنوات. كان صبياً يخطو أولى خطوات الرجولة، وكانت بالنسبة إليه مثل «الحلم الذي لا يمكن أن يستفيق منه عاشق أزلي». عيناها خضراوان، ولضحكتها وقع يشبه نغماً شجياً، تدور بين البيوت بربطة القماش الثقيلة، وصندوق ضخم تحمله على كتفيها من أجل حفنة نقود. بسبب حبها، انفتحت طاقة الكتابة لديه، كتب من أجلها الشعر، لكنه ــ حسب وصفه ــ شعر رديء، وكما ظهرت فجأة، اختفت أيضاً لتترك في قلب العاشق الصغير حباً لا يمكن نسيانه، «يظل وافراً وبهياً داخل أرواحنا بعبق زمانه» كما يكتب!
ربع قرن مغترباً، ست سنوات قضاها متنقلاً بين بلدان مختلفة: نيروبي، باريس وروما مترجماً بالقطعة. كان مثل طائر يسافر من غير حيلة بين السماوات، ولم يجد له موطناً كموطنه الذي غادره، قبل أن تستقر به الحال عام 1981 في جنيف مترجماً فورياً في الأمم المتحدة. سيعود في أوائل التسعينيات حاملاً أسئلته التي حاول أن يبحث لها عن إجابة عبر الكتابة: «هل تركت الغربة بمحض إرادتي وعدت بهذا الكم من الحنين؟ أم أن الغربة ما زالت تسكنني وتستوطن أفكاري... بل مصيري كله؟ كم أحتاج إلى التقصي عن آثار تلك الغربة التي خلقتها في روحي؟».
وهكذا لم يستطع الغرب ولا الزوجة الغربية تحرير بهاء من أحزانه وغربته وتصوراته. لم يتصالح مع الغرب، تقول له الفتاة التي أحبها وصارت زوجته فيما ستيفكا، بعد حوار طويل عن الشرق والغرب: «أوف... نظرية المؤامرة بهاء، أنتم الشرقيون، اسمعها كثيراً». يقول لها: السياسة الدولية فيها جانب كبير من التآمر، ومن لم يؤمن بنظرية المؤامرة عبر هذا التاريخ الطويل قد يكون هو نفسه متآمراً. يذكّرها بتجربة السنغالي أحمد مختار إمبو الذي انتخب مديراً عاماً لـ«اليونسكو»، ووقفت أميركا ضده إلى حد إلغاء اشتراكها الذي يمثل ربع ميزانية المنظمة، عقاباً له. فتذكّره: لكنه انتخب مرتين، وساندته بعض الدول العربية بتعويض الفرق الناتج من سجب ميزانية أميركا... المهم من انتصر في النهاية؟
لا يجيبها، لأنه لم يقتنع بمنطقها، ليعود في فصل آخر من فصول الكتاب مقارناً بين حادث مجلة «شارلي إيبدو» التي نشرت رسوماً كاريكاتورية وصفت بـ«المسيئة» للنبي، وبين ما يحدث في سيناء: «العالم كله ينتفض حزناً على حادث «شارلي إيبدو»... لماذا لا ينتفض حزناً على ما يحدث في سيناء كل يوم من قتل للجنود والضابط المصريين؟»، يسأل بهاء: «إلى متى سيستمر الكيل بمكيالين في الحكم على نفس القضايا؟» ويجيب أيضاً: «يبدو أن هناك دماء غالية ودماء رخيصة»، رغم أن لا مجال للمقارنة بين الموقفين!
الغربة لدى بهاء طاهر عامرة بالأسى، وبالتجربة الحية والمخزون الوفير. تقول له ستيفكا: بهاء، إن ما زرعته في الغربة كان مثمراً دوماً. لكنه يجيبها: لم أزرع شيئاً هناك يا ستيفكا، صدقيني، أنت الشيء الوحيد الذي يمكن أن أزعم بصدق أن الغربة منحتني إياه. تقول له: لكنك كتبت كثيراً هناك يا بهاء... كثيراً. يجيبها: وضاع عمري أكثر، أهدرته الغربة. تضحك وتقول «لو أن الطواويس تطير يا بهاء»! ويضحك هو أيضاً معها!