ليس سهلاً أن تُقرأ التجربة النسوية في بلادنا، أو أن تُجترح محاولات لقراءتها «خارج المكان»، على منهج إدوار سعيد. أي محاولة من هذا النوع، قد تؤدي ــ بسبب سوء نية البعض ــ إلى الخلط بين هذا المنهج، وبين الخطاب الذكوري المهيمن الذي يستعين بدورهِ بأدوات الماضي للحفاظ على المكتسب القميء: السُلطة.
لكن، هل هناك «ذكورية» تعمل تحت غطاء الخطاب الما بعد كولونيالي أو تتأثر بهِ؟ نتحدث عن خطورة أي خطاب يرسخ البنية الاجتماعية ويمدها بالقوة والقدرة على مقاومة التغيير. سؤال أكثر وضوحاً: هل هناك «نسوية» لا تنتبه إلى هذا الخطاب، أو تخضع إليه خضوعاً تاماً، فترتدي ثوباً نسوياً ظاهرياً أو «ظواهرياً»، بينما يكون أهمُّ نتائجِ أفعالها هو إسقاط نظام هيمنة تحت ذريعة وجود نظام آخر؟ (أحلام مستغانمي في الأدب، جمانة حداد في المسرح) آنيا لومبا، ربما لديها الإجابة. فلنقل، الطريق إلى الإجابة. تحذّر الكاتبة الهندية من أنه أثناء البحث عن المرجعيات الفكرية المستخدمة لتأسيس خطاب ما بعد الكولونيالية، وخلال محاولة تفسير مدى تشابك هذه المرجعيات واتصالها على مستويين أساسيين (التأويل والتحليل)، يجب الانتباه إلى أن «رصف» هذه المرجعيات على قاعدة واحدة ــ رغم تعارضها فكرياً وابستمولوجياً ــ قد يؤدي إلى تشتت منهجي.
لماذا يبقى الباحثون الأوروبيون الذين اشتغلوا خلال فترة الاستعمار هم المسؤولين عن إنتاج معرفة تتماشى مع الصورة التي رسمتها المجتمعات الغربية عن الشعوب التي سيطرت عليها؟ يركّز الاستشراق على أن هذه الأمم، المُستَعمرة، ظلت في هامش الحداثة الغربية. وعندما يُقال في لبنان مثلاً، بخِفة، إن «الكوتا ضرورية»، في البرلمان وفي الحكومة، لأنه «في السويد هكذا هو الوضع» وفي «فرنسا هكذا هو الوضع»، فإن قياس الهيمنة الذكورية في هذه الحالة هو قياس «ما بعد كولونيالي». للنساء العربيات أدوارهن ونضالاتهن في المجتمع وفي المقاومة، وهي من ضمن النضال النسوي لا خارجه. وهذه الأدوار والنضالات التي تبقى في العتمة لأنها لا تؤاتي «العقل الغربي» وتصوراته، لا تلغي حق المرأة في الوصول، أو في تجاوز المواقع التي تصلها المرأة الأوروبية، وضرورة استمرار النضال النسوي وزيادة وتيرته. لكن في المنهج، وفي القياس، يجب إعادة الاعتبار للأنتروبولوجيا، ولنبذ العنصرية والفوقية الغربية، لأن الخطاب سرعان ما يتحول إلى سُلطة.




سُلطة فوق سُلطة، ويعيد النظام البطريركي إعادة إنتاج قوته مستغلاً «سوء الفهم» الكبير. أبسط مثال على ذلك، افتقار (معظم) الجمعيات، ويمكن القول «التيارات» النسوية، في لبنان، إلى فهم «ابتسمولوجي» للدين، خارج الإنتاج الغربي الاستشراقي لهذا الدين، وعدم إيلاء هذا الأمر أي أهمية. لقد أبرز ميشال فوكو كيفية تحوّل الخطاب إلى ُسلطة عبر مجموعة من القنوات التي تبثها الدولة في مختلف مؤسساتها لتشكيل الذات وفق ايديولوجيتها المسبقة، وتثبيت سيطرتها، لكن إدوار سعيد استلهم بدوره هذا الإبدال المعرفي الفوكوي، واستثمره في توصيف كيفية تحوّل الخطاب الاستشراقي الغربي المتدثر بالتعالي والإقصاء للآخر إلى تقاليد ناجزة، ومسلمات قبلية يلتهمها كل غارق في الثقافة الأوروبية من دون أي تشكيك أو مساءلة.

أدوار ونضالات تبقى في العتمة لأنها لا تؤاتي «العقل الغربي»

لا يعني ذلك اتهام «التيارات النسوية» بأنها لا تسائِل «الثقافة الأوروبية»، أو القول إن الثقافة الأوروبية هي التي أنتجت الوعي النسوي. فذلك لا يكون إلا تطبيقاً حرفياً للاستشراق. وفي نهاية الأمر، الثقافات متداخلة في ما بينها، ومساراتها هجينة على نحوٍ معقد، ومتلاقحة بين بعضها البعض، إلى درجة أنه لا يمكن الفصل في ما بينها. لكن المرأة (العربية) التي خضعت للاستعمار وللاحتلال، قاومت وقاتلت، مِثلها مِثل المرأة التي تعمل، من دون أن يكون هذا محصوراً بتمثيلات جغرافية على النمط الاستعماري. وكلما جُرد الشرق من تاريخيته، وتحول مجموعة نصوص متخيّلة تتغذى بتقاليد تتكدس لتشكّل تمثيلاً خاطئاً له، حظي الخطاب الغربي الاستعماري بالمنافذ لاستعباده، تحت ذريعة «الحضارة»، حاملاً مشعل «المدنية الحديثة».
في الحرب على الهيمنة الذكورية، هل يجب «تنقية» التيارات النسوية؟ ربما. في كتاب شولاميث فايرستون «العجيب» (جدلية الجنس)، إشارة (واحدة) مفيدة إلى كارل ماركس، وإشارته إلى «العائلة» التي تضم كل بذور التناقضات القابلة للاتساع والتمدد في الدولة وفي المجتمع. «ثوري»، ويجب على الثورة أن تأكل في طريقها البنى الاجتماعية للنظام الأبوي، وتجنب إعادة إنتاج هذه البنى في أشكال متعددة للاستغلال، وربما العودة إلى «مفهوم غرامشي» عن الهيمنة. يشدد المفكر الإيطالي على ضرورة كشف الاستراتيجيات التي تعتمدها الدولة في إيهام الطبقات الاجتماعية، وخاصةً منها المهمشة، بأن مصالحها هي مصالح الجميع، مستثمرة بذلك قوة ضمنية أكثر نظاماً وشمولية تتجاوز الاقتصاد وأجهزة الدولة المباشرة، ويقصد التعليم والإعلام. وفي العصر «النيوليبرالي»، الما بعد غرامشي، يمكن أن نضيف... «المجتمع المدني».