الجدل في العالم العربي بشأن تعليم العلوم والرياضيات باللغة الأم واللغة القومية أو باللغة الأجنبية يأخذ في لبنان أبعاداً مختلفة.
فمجال البحث هنا لا يتعلق فقط بمدى أهمية وإمكانية أن تدرّس هذه المواد باللغة العربية أم لا، بل تبدو القضية أكثر تعقيداً لجهة أن لغة التعليم المعتمدة في الكتاب والامتحان (وهي اللغة الأجنبية في غالبية المدارس، باستثناء عدد محدود من المدارس في المناطق يدرّس بالعربية حتى السادس أساسي) ليست هي نفسها «لغة» الأستاذ في الصف، وأنّ اللغة ليست عائقاً وحيداً في تحسين مستوى التحصيل للعلوم والرياضيات وتكوين التلميذ ـ الباحث، صاحب التفكير الناقد.

الإبداع مرتبط بالفهم

المخزون اللغوي هو الأساس، يقول ابراهيم العزنكي، أستاذ جامعي وباحث في اللغة العربية، «إذ لا يمكن أن أبدع ما لم أفهم الوقائع وما يحيط بها وأكون قادراً على التعبير عنها». يتوقف هنا عند الخصوصية اللبنانية حيث «تجد تلامذة يدرسون المواد العلمية باللغة الأجنبية وكأنها لغتهم الأم، وآخرون لا يسمعون بهذه اللغة إلّا في المدرسة ويواجهون مشاكل كبيرة في الاختبارات المدرسية والرسمية والعالمية، باعتبار أن الفرنسية أو الإنكليزية هي اللغة المعتمدة في الكتاب والامتحان». برأي العزنكي، «المعيار هو كيف يقدم المعلم المفهوم داخل الحصة الدراسية، بدليل أننا نجد تلامذة يحصّلون علامة كاملة بالمواد العلمية ويكونون دون المستوى في اللغتين العربية والأجنبية».
أستاذ الرياضيات صهيب يقطين يؤكد هو أيضاً أهمية الربط بين المفهوم والمصطلح، «فركيزة المادة هي المصطلح ولا أعتقد هنا أن هناك فرقاً بين اللغة الفصحى واللهجة المحكية، لأن التفكير لا يمكن أن يتم إلّا بالعامية، وما يزيل الحواجز بين المصطلحات العلمية واللغة هو أن هذه المصطلحات تدرج على لساننا وكأنها عاميّة». من هنا يؤيد تعليم المواد العلمية بالعربية في المرحلة الابتدائية، لكونها مرحلة تشكل العقل.

التواصل بين أساتذة اللغة وأساتذة العلوم

مراجعة نتائج الامتحانات الرسمية تظهر، بحسب ابتهاج صالح، الرئيسة السابقة لقسم العلوم في المركز التربوي للبحوث والإنماء، أن ضعف اللغة لدى عدد لا يستهان به من تلامذة المدارس الرسمية ودكاكين التعليم الخاص يؤثر في استيعابهم لمواد العلوم والرياضيات. إلّا أن التجربة أظهرت، كما تقول، أنّ التحوّل إلى تعريب العلوم ليس هو الحل بدليل انتقال جمعية المقاصد إلى التعليم باللغة الأجنبية بعد سنوات من التعليم بالعربية، لوقوف اللغة عائقاً في متابعة التلامذة لدراساتهم الجامعية. برأي صالح، المطلوب إعداد الأساتذة وتقوية الطلاب باللغة الأجنبية وتعزيز التواصل بين أساتذة اللغة وأساتذة المواد العلمية.

القدرات الاشتقاقيّة في العربيّة

هذا ليس رأي جورج نحاس، أستاذ في التربية في جامعة البلمند. يستند نحاس إلى عدد من الدراسات حول التحصيل التعليمي تشير إلى أن نتائج المتعلّمين في الصفوف الابتدائيّة هي أفضل عندما يتمّ التدريس باللغة العربيّة. تفسير ذلك أن استيعاب المفاهيم (concept) باللغة الأم هو أيسر وأبقى في ذهن المتعلّم. وهذا أمر يثبته علم النفس اللساني كما علم النفس المعرفي. يقول إنّ علماء اللسانيات يتفقون على أنّ القدرات الاشتقاقيّة في اللغة العربيّة تجعلها قادرة على ترجمة المصطلحات بشكل ميسّر جدّاً.
أما الكلام عن خصوصية لبنان فيصفه نحاس بـ«الكلام السياسيّ الذي لا يصمد أمام أيّ تحليل علميّ. خصوصيّة لبنان تكمن في قدرته على تعليم لغة ثانية بشكل سليم ومتين وهذا لا يناقض أبداً تعليم العلوم والرياضيات باللغة العربيّة».
نحاس يرى أننا «نحمّل اللغة ثمن تهاوننا ومواقفنا غير المدروسة وغير الممحّصة علمياً، فنحن لا ندرّس الرياضيات والعلوم بالشكل الملائم، ما يضعف طاقات تلامذتنا على التعامل مع المفاهيم العلميّة بشكل جيّد. وهذا يؤثّر سلباً في تأهيلهم ليصبحوا علماء، فيختفي من عندنا الإبداع العلمي، ويتراجع حضور لغتنا على مستوى النشر المرموق».

تكوين المواطن العالمي

يوافق فادي الحاج، الباحث في تعليم العلوم في جامعة القديس يوسف، على أنّ لغة التعليم هي إحدى المشاكل الأساسية في فهم العلوم، لكن هناك قضية لا تقل أهمية وهي أن «مناهجنا وكتبنا ومعلمينا لا يطوّرون الفكر العلمي لدى التلميذ فيعلمونه نتائج الاكتشافات ولا يضعونه في موقع الباحث ليكتشف بنفسه ويخبرنا عن النتائج».

الإبداع غير ممكن بمعزل عن استيعاب المفاهيم والتعبير عنها


يقر الحاج بأنّه ليست هناك صعوبات في التعريب بدليل أن علماء الأحياء والوراثة في جامعة لوميير في ليون ـ فرنسا يبحثون عن الكلمات المشتقة من اللغة العربية، لكن المسألة هي تحضير التلميذ ليكون مواطناً عالمياً قادراً على قراءة أي مقال علمي بأي لغة، فبدلاً من التعريب الذي يمنع التلامذة من الوصول إلى المقالات العلمية العالمية الموضوعة بغالبيتها في الإنكليزية، ينبغي تحضير المعلمين والتلامذة في الأرياف والمدن لامتلاك حق الانفتاح على العالم. برأيه، ثمة علاقة بين علم الأعصاب والتربية، فتعليم الرياضيات والعلوم بغير اللغة الأم يطوّر الدماغ بشكل أفضل لجهة حل المشاكل والتفكير الناقد. يقول إن المغرب الذي تحوّل إلى العربية في ثمانينيات القرن الماضي تراجع عن التجربة وعاد إلى اللغة الأجنبية.

«اللغة» المحكية هي لغة التدريس

هنادي شاتيلا، الأستاذة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، تثير جانباً آخر هو لغة التدريس التي هي عبارة عن خليط من العربي «الدارج» والفرنسي والإنكليزي وبعيدة عن اللغة العربية الفصحى، ما يعني أنّ التلميذ الذي يواجه مشكلة مع اللغة الأجنبية لاستيعاب المفاهيم العلمية سيواجهها أيضاً مع العربية، لكون الأخيرة ليست لغة تواصل. وتقول إن من لا يتقن اللغة لا يستطيع أن يتقن المفهوم، مشيرة إلى أن التعليم باللغة العربية قد يغيّر في المواقف (attitude) أي يمكن أن يجذب التلميذ للمادة ليتابع دراساته فيها، لكن التجربة والمشاهدات الأكاديمية تظهر أن التعريب لم يحدث فرقاً في التحصيل التعليمي، بصرف النظر عن القرار السياسي». تقول إن تجربة التعريب نجحت فقط في سوريا والأردن وفشلت في دول المغرب العربي مثل المغرب والجزائر، والمفارقة أنّه ليس هناك توحيد بين المصطلحات المعرّبة بين البلدان العربية.

النقاش أيديولوجي وليس تربوياً

«الآراء في لبنان هي أيديولوجية وليست تربوية لغياب الدراسات المعمقة»، هذا ما يعتقده ﺻﻮﻣﺎ أﺑﻮ ﺟﻮدة، ﻣﺪﻳﺮ المركز اﻟﺘﺮﺑﻮي ﻟﻠﻌﻠﻮم واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻓﻲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ الأميركية. برأيه، الأمر ليس بالسهولة التي نفكر فيها، فما هو تعريف اللغة الأم؟ وهل يكفي التحوّل إلى التعليم بالعربية لتعزيز الفهم والاستيعاب والتعبير؟ وهل نجحت تجارب الدول العربية في هذا الإطار وما هي أسباب النجاح أو الفشل؟
يجيب: «تغيير اللغة لا يكفي لوحده إذا لم نبدّل طريقة التعليم التلقينية، لذا فالدراسات التي بدأها مركزنا تقوم على فكرة أساسية هي كيف نحسّن تحصيل تلامذتنا للعلوم والرياضيات، باعتبار أن التجارب في العالم لم تظهر أن تغيير اللغة يؤدي وحده إلى تحسين نتائج التلامذة في الاختبارات العالمية في العلوم والرياضيات».

*للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]