ثلاث حلقات أساسية في مسيرة يانيس ريتسوس (1909 ـ 1990) أكثر شعراء اليونان المعاصرين سطوعاً وأغزرهم نتاجاً: مونوفاسيا (مكان ولادته)، وأثينا آصرة التواصل مع المستقبل، ومركز مصحات معالجة مرض السل، إلى جانب المعتقلات والمنافي البعيدة والمقفرة.
لعلّ أكثر قصائده تمثيلاً لعمله، هي تلك التي يبدو فيها الصفاء الظاهر منسجماً مع الغموض النابع أصلاً من طبيعة الواقع الذي ترسمه رؤياه الذاتية، جاعلة منه أحد أهم رواد اعتماد اليومي والسردي والتشكيل البصري الذي تصخب به قصائده، مؤسساً بذلك عالمه الشعري الخاص. عالم يأبى التصنيف المسبّق لأنّ عمقه الفلسفي يستحوذ على مداه الأفقي. لعبته الشعرية، تمثل جانباً إبداعياً معقّداً رغم سهولتها الظاهرة، إذ غالباً ما تستدرج قصيدته المتلقي إلى شرك محكم: مقدمة عادية لمشهد خارجي عام، تفضي بالقارئ مع كل جملة إلى التورط التدريجي غير المحسوس في لعبة تغوي بالتواصل عبر حزمة من التفاصيل اليومية المنتقاة بدقة، لتأتي المفاجأة وتحكم قبضتها في المشهد الأخير.. إذن ينبغي إعادة القراءة مرة أخرى.
منذ باكورته «جرّار» (1934)، تسود رغبة في الاعتراف أشعار ريتسوس، وغالباً ما تختفي خلف شخصيات الشاعر وحواراتها. اعترافات تتواصل ليكتمل محيط دائرة السرد الدرامي، ساعياً إلى نتاج يطرق أبواب الحلم والخيال، متحرراً من كلّ ما يكبّله ومعززاً في آن جوهره الإنساني، مع ميل للمزاوجة بين الرثاء والحماس، ليسجل الشهادة الأهم حول علاقة البشر بالوجود، متأملاً في تحديد قيمة الشعر في إطار الثقافة الجمعية. حاول ريتسوس بلورة مدرسة شعرية تحت عنوان «الثورة في الكتابة». هو بذلك أحد الشعراء العقائديين القلائل الذين دافعوا باستمرار عن الحرية والديمقراطية، موصلاً نبرة الحداثة بمحور تحرير الإنسان، مؤكداً أنّ التغيير ليس ممكناً إلا بثورة ثقافية شاملة تعتمد على منهج واضح، رافضاً بذلك الشعر السياسي المباشر، ومدافعاً عن الشعر المؤسس للغة جديدة وحساسية مغايرة، والموحي بعالم آخر مكانه الرغبة والمخيلة. لذا عزز اللامرئي والباطني، أكثر من تركيزه على المحسوس والظاهر.
في بيت صلب الجدران، ما زال شامخاً عند تخوم البرج العظيم الذي بناه البندقيون هناك مثل سور يرتفع عالياً ليحمي البلدة المتخمة بالأساطير والحكايات من غضب البحر، ولد ريتسوس في مونمفاسيا الراقدة في جنوب شرقي جزيرة بولوبونيز: «تلك الصخرة الكبيرة كأنها قبضة يد تمتد شاقولياً في البحر. مونمفاسيا التي هي في كل أشعاري (...) كل شيء عندي مونمفاسيا». كانت طفولته تلهث إلی الخراب المترامي الذي يخيّم علی عائلته المنذورة للأهوال الغريبة. الأب، أحد كبار ملاك الأراضي في فترة يونانية شبه إقطاعية، يدمن القمار، فيفقد أراضيه ويخيم المرض علی الأعوام التالية. قدم ريتسوس إلی أثينا سنة 1925 لإكمال دراسته. فتى في السادسة عشرة، مثقلٌ بحاضر قاسٍ. إنها الأزمنة العصيبة: دمار آسيا الصغری وتدفق ملايين اللاجئين ليشكلوا حزاماً من البؤس والفقر يطوق العاصمة. عاش ريتسوس ألوان القهر والمذلة والاستغلال في مدينة لا ترحم. وفي شتاء 1929، يتلقی الضربة الاولى. يدركه مرض السلّ الذي اختطف شقيقه ووالدته، ويظل فترة طويلة من رواد المصحات. عتمة حالكة تلف أعوام الصبا، وقائمة من الانكسارات الذاتية، غير أن الشعر يأتي كفعل للخلاص، وتوازن دقيق يقيم جداره أمام زحف اليأس. بعد أيام من صدور مجموعة «أغنية أختي» سنة 1937، كتب كوستيس بالاماس، أحد أهم أعمدة الشعر اليوناني الحديث، اعترافاً بالارتجافة الجديدة التي مسّت الشعر اليوناني: «نتنحى جانباً، كي تمر أنت، أيها الشاعر». أعوام الرعب تزحف إلى مفاصل الحياة اليونانية: الاحتلال الألماني، مجاعة شتاء 41 ــ 1942. أمضی ريتسوس تلك الأعوام محطماً تحت وطأة المرض، مقيماً في غرفة تحت الأرض في حي شعبي في أثينا. يتعرض للاعتقال، ويساق إلى معسكرات الاحتجاز في مسلسل طويل من الرعب والتعذيب. في 1956، ينال الاعتراف بحصول مجموعته «سوناتا ضوء القمر» على الجائزة الهيلينية الوطنية الكبری. وفي العام التالي، تنشر ترجمتها الفرنسية في مجلة «الاَداب الفرنسية»، مع تقديمٍ حماسي من أراغون (عدد 28 فبراير ــ 6 مارس 1957): «إنه من بين أكبر شعراء هذا العصر وأكثرهم تفرّداً. مضی زمن طويل لم يهزني فيه شيء كما هزني هذا الشعر الصادم بعبقريته... من أين يجيء هذا الإحساس بالرعشة في الشعر؟ حيث الأشياء ذاتها تؤدي دور الأشباح. في هذا الشعر، ثمة صدى يونان ليست هي بيونان بايرون ودولاكروا، وإنما هي يونان الشقيقة التوأم لصقلية بيرانديللو وغريكو، حيث الجمال ليس هو جمال الرخام المشوّه أبداً، وإنما هو جمال الإنسانية الممزقة وانحطاط عصر».
تطلق السلطات سراحه مجبرةً إثر حملة تضامن بتحريض من أراغون وأشهر المثقفين والمنظمات الفنية. تضع أعوام العذاب خاتمتها الأولی. أربعة عقود متواصلة من الحرمان والويلات والتنقل بين المعتقلات في ظل أنظمة تقف بالضد من كلّ أشكال الإبداع والفكر.
رشح ريتسوس مراراً لجائزة «نوبل» لكنه لم ينلها، بسبب انتمائه اليساري في أزمنة الاستقطاب السياسي والفكري الحاد. حين نالها التشيلي بابلو نيرودا عام 1971، قال: «أعلم تماماً أنّ ذلك الإغريقي يستحقها أكثر مني». في ليلة خريفية باردة، تنحی ريتسوس عن دوران الأيام اللاهث. رحل وهو نائم، كأنما امتزج الموت بالنوم، أو الحلم بالموت رافعاً المزلاج ليفتح بوابة إحدی قصائده ويمضي في دهاليز الشعر. ترك أكثر من 100 مجموعة، إضافة إلى إصدارات في الترجمة والمسرح والرواية والدراسات وأدب الرحلات، وكتاب خاص ضمّ رسومه وتخطيطاته وأعمال الحفر على الحجر.


ثلاثيات 111 × 3 *
فتحت ثقباً في الورقة
دخلتها الريح
لتغدو الدليل في القصيدة

■ ■ ■

دمروا المعابد الإغريقية
وفي الصباح التالي
صلينا أمام أقحوانة

■ ■ ■

طويلاً.. طويلاً كان الخيط
ليس لنشر الملابس ولا لحبل المشنقة
إنّه ليرفع الطائرة الورقية عالياً

■ ■ ■

في ليال صيفية طويلة
قاطعو الأشجار يمارسون الحب
مع الأشجار المقطوعة

■ ■ ■

تحت قناع ساحر
يخفي جماله الأخّاذ
القصيدة تتلعثم

■ ■ ■

على منصة الليل نسيتِ مشطكِ
النجوم شهودي
لن أعطيك إياه

■ ■ ■

رائحة الخشب الجديد تفوح في البيت
وقفت المرآة على أصابع قدميها
لرؤية الببغاء

■ ■ ■

بعد البرد القارس
تلوّح لك زنبقة صغيرة
بمنديلها الأبيض

■ ■ ■

تماثيل عارية
على قبور موتاها
تمارس الحب

■ ■ ■

في الفم الجميل
حتى التجديف
تسبيحٌ للخالق

■ ■ ■

هل عشت القبلة والقصيدة
فالموت إذن
لا يأخذ منك شيئاً

■ ■ ■

كم من طيور تحت جلدك!
حين ألمسك
تغرد جميعها

■ ■ ■

الأشجار على الجبال،
الجنود في الميدان،
وأنا مع أوراقي في هذا العالم

■ ■ ■

يا لسرية مفرداتي الطيبة
التي لم أقلها بعد

■ ■ ■

يتأرجح البندول على البيانو
توقف البيانو عن العزف
لكن الستائر ظلت ترقص وحدها

■ ■ ■

يا فلسطين، كم هي حمراء تربتك
يتسلق درويش* ليلاً
مع شجرة زيتون في قلبه
* الشاعر الفلسطيني محمود درويش

■ ■ ■

كيف لنا أن نسمعك؟
كيف لنا أنْ نحييك أيها البحر؟
والدبابات تمر

■ ■ ■

خلف شجرة تفاح أختبئ
حتى لو أتيتِ من أجل التفاح
فستجدينني

■ ■ ■

جئت بالقرية إلى منزلي
شجرة صغيرة نمت في سريري
أجلس على غصونها وأراقب المدينة

■ ■ ■

بهدوء تخطو الأوراق على الريح
أسمعها في نومي وأذهب برفقتها
لنصل إلى الجذور

■ ■ ■

ما زال ثوبكِ معلقاً
مرت به الريح
ثم حل المساء

■ ■ ■

كل صباح أطارد الكسل بالمكنسة
ثم اعتليها وأطير فوق المدينة
فتسطع كل النوافذ

■ ■ ■

المنزل خاو والنوافذ مغلقة
عارياً ممدداً على السرير
يخفق غياب جسدكِ
* من مجموعة «ثلاثيات 111 × 3» ــــــ 1987


اعتراف *

الرسالة التي بعث بها ريتسوس إلى زوجته فاليتسا (الطبيبة في جزيرة ساموس) من مقر إقامته الجبرية في أثينا خلال الحكم العسكري، واحتفظت بها في أرشيفه الخاص بعد رحيله. حوت الرسالة وجهات نظره الجمالية، واعترافاً برؤى إبداعية. الرسالة ليست نصاً للنشر والتداول، لكنها تفصح عن الموضوعين اللذين كرس لهما حياته: الثورة، كما يحلو له أن يردد، والشعر. لعل أهميتها تكمن في ما دوّنه عن جزء من نتاجاته، وفقاً لذائقته، لتغدو أقرب إلى اعتراف يبوح به إلى كل منا على انفراد. هنا مقاطع مختارة من الرسالة:
منتصف الليل يقترب، وأنا وحدي، رائحة الصيف تفوح. قضيت المساء كله أدوّن رسائل كان عليّ أن أنجزها منذ أيام مضت لأتحرر وأبقى معك خالياً من الالتزامات، وأحادثك قدر ما أستطيع. تسلمت اليوم رسائلك الثلاث دفعة واحدة، ثمة الكثير مما تقولينه لي، وأبوحه لك. وهنا تكمن صعوبتنا المشتركة.
ربما ينتابك شعور الالتباس، أو تعتبرينني معتوهاً، كما كنت تخشين دائماً، كون ذلك الذي تسألين عنه عن طريق عملي مع القدماء (يقصد تعامله مع الأسطورة، مع التاريخ، مع القدماء)، هذا التعارض يشتتني بين اللحظة الآنية والأبدية، بين الضرورتين، الضرورة الأولى لم أحيها واستجب لها بصورة مباشرة، عبر مجموعة «المرثية» و«وداع» و«روميوسيني» و«سيدة الكروم»، و«الإنسان ذو القرنفلة». تلك المشاعر تجعلني طاهراً أعزل، وغالباً ما أبدأ في الشك بتلك الطهارة بعد ظهور العمل. من هنا تبدأ اشكالية عدم الفهم والارتباك. إذن أين يختتم الالتزام حدوده لتبدأ حدود الشعر؟
أرجو أن لا يخامرك الشك بأني أرغب بتكرار ما قيل سابقاً ألف مرة، وتلك اللعبة اللغوية بأن الشعر لا يكتب عبر الأفكار، بل من خلال المفردات، ولكن لندع ذلك الآن كونه سيذهب بنا بعيداً، ولنتفحص خطراً آخر يتصل مباشرة بالشعر وبأخلاقيات الشاعر. الفكرة التي يشكلها الشاعر عن نفسه من حب وإعجاب الناس، والرغبة الجامحة في تكريس هذا الاعجاب ما يجعله ينتفخ إلى حد الاضحاك. والاسوأ من ذلك الانتفاخ هو الرضى الذاتي الذي يتسرب إلى شعره.
أذكر اني بكيت بحرقة مثل طفل صغير حين كتبت «وداع»، وهذا ما فعلته أيضاً حين كتبت «المرثية». غير أن قناعاتي وصلت الآن ـ كما قلت لك من قبل ـ إلى حقيقة مفادها أنّ الشعر لا علاقة له بالدموع أو بالتصفيق، لكنهما يؤمنان المجد للشعراء، لهذا كتبت في مجموعة «أحجار»:
عقبة تمنعني من التفكير حتى النهاية
هي المجد.
الشعراء يمجدون لأسوأ قصائدهم. أتلمس ذلك المنحى وأعرفه تماماً، وقصيدة «هرقل ونحن» مثال على ذلك. أعتبرها أسوأ قصائد مجموعة «تكرارات»، لكني أعلم مسبقاً أنّها ستثير الإعجاب، كنت متردداً في نشرها في بداية الأمر. كقصيدة أعتبرها سيئة ومقدمتها وصفية طويلة، ونهايتها رخيصة، وفي جوهرها تفاهة مثيرة للاشمئزاز تتلبس شكل التواضع، لكنها حصدت كل هذا الاعجاب والاهتمام.
عقارب الساعة تقارب الرابعة فجراً، أتركك الآن يا فاليتسا لأغفو قليلاً، وأتمنى أن أواصل غداً بعد الانتهاء من واجبات الصباح. أعلم أن كل ما أود قوله لا يسد أسئلتك وأسئلتي أيضاً، التي تتماثل أحياناً، وتتمايز أحياناً أخرى.
* أثينا ـــــ 15 أيار (مايو) 1972

إيروتيكا*

مساء شهوانيّ
… أوه
القمر في الغرفة
القمر على السرير
على الجسد العاري
في القبو
خبطات معدنية
الحداد يسمّر
حدوة ذهبية
على حصان أبيض
الحصان المجنح
وأنتِ لا تكترثين
إن كانت الحدوة ثقيلة
هل سيحلّق مرة أخرى؟

■ ■ ■

ضعي قدمكِ العارية
على الورق
على القصيدة
سأرسم حوافها
سأرسمها على الجدار
بدبوس صغير
سأضيئها بثلاث شموع
في الشمعدان
حسناً، أوصدي الباب

■ ■ ■

ما فائدة النجوم
في غيابكِ

■ ■ ■

سأحمل المطرقة
وأنحت الهواء،
أنجز تمثالكِ
مشرعاً،
أدخله
وأمكث

■ ■ ■

كل نجمة، كل ورقة شجر
كل سيجارة أوقدها
كل خطوة في الطريق
هي خطوتكِ
وأنتِ هنا
وقدومكِ كان متأخراً

■ ■ ■

ليس ثمة أبيات أخرى
لأضيفها
ليس ثمة مفردات أخرى
في جسدكِ
عشت الشعر كله

■ ■ ■

الآن
السماء
هي
أرضي،
والأرض الفسيحة
هي سمائي،

■ ■ ■

في جسدكِ
أولد وأذوي
ثم أولد

■ ■ ■

سحبت الشراشف
أشرعت النوافذُ
امتلأنا بالنجوم
فراشة ذهبية
اختبأت في شعركِ

■ ■ ■

كيف يعيش الموتى
من دون حب؟

■ ■ ■

نسيتِ المظلة
في القطار
كنتِ تفكرين فيّ إذن
شعركِ المبلل
سرحته
ووضعت المشط
تحت القصيدة

■ ■ ■

حين ترخين ذراعكِ
على ركبتي أو كتفي
أو حول خصري
يغيّر الكون موقعه

■ ■ ■

صباحاً، أنا أكثر أرهاقاً منكِ، ربما أكثر سعادة أيضاً، تستيقظين بلا جلبة، ضجة خافتة لملاءات السرير، تمضين حافية القدمين، فيما أواصل النوم في الدفء الذي خلفه جسدكِ العاري، أنام موغلاً في جسدكِ، غارقاً في عتمة ناصعة البياض، أسمعكِ تغتسلين، تعدين القهوة، تنتظرين أسمعكِ تقفين فوقي، حائرة، ابتسامتك تخترق جسدي كله تطري أظفاري
أرقد، أشرعة بيضاء تومض ساكنة، غطاء أحمر يتدلى فوق حبل الغسيل، الأحمر يثقل جفوني

■ ■ ■

نقطع قصباً، نقيم كوخاً ذهبياً. بمشقة تعتلين السقف، بكلتا يدي أقبض على كاحليكِ. لا تهبطين، تحلقين.. تحلقين في الزرقة، تسحبينني معكِ، أقبض على كاحليكِ، من كتفكِ، تسقط المنشفة الزرقاء الكبيرة في الماء، تطفو لبرهة ثم تغرق تاركة على صفحة الماء نجمة خماسية ترتعش.
لا تذهبي أبعد، صرخت، ليس بعيداً وفجأة نستلقي بارتطام ساكن، على السرير الخرافيّ. انصتي في أسفل الشارع، يمر المضربون بلافتاتهم وأعلامهم، ألا تسمعين؟ تأخرنا. اجلبي معكِ أيضاً منديلكِ الذي ترقصين به... لنذهب. شكراً يا حبيبتي
* من مجموعة «إيروتيكا» (1981)

متأخراً... متأخراً جداً
في منتصف الليل *

ضيق الوقت
ليس لدي - قال - وقت، لا وقت لديّ
أشجار، منازل، جبال، طيور، أنهار، أضواء، فراشة شقراء،
نافذة مغطاة بستارة صغيرة بيضاء،
فرس حزينة على جسر خشبيّ،
صبيّ بان الذهول على رموش عينيه،
كل هذا يومئ لي للحظة
ثم يتركني في منتهى الوحدة
أعمى، أصم
على حافة العالم.


بحث عقيم

امرأة جميلة بشعر كئيب وأساور خفية
ترقد الآن في الغرفة العليا.
لا تعلم بشكوكنا القديمة (رغم اعترافنا أحياناً)
حتى مع نسياننا الحالي.
سأنزل إلى القبو،
سأوقد شمعة وأبحث عن شيء
لأحتفظ بأسرار زمني
تالياً سأصعد لأحاول إيقاظ المرأة
تلك بالشعر الكئيب.
الشمعة لن تنطفئ.


ليس تماماً

امرأتان (ربما أم وابنتها) بوشاح أسود
عبر الباب المفتوح، يمكن رؤيتهما
تجلسان قرب بعضهما على كنبة قديمة.
لا تتحركان البتة، لا تتكلمان.
قطعة كبيرة من الخبز ممددة أمامهما على الطاولة.
القطة على الكرسيّ.
خارجاً، البحر يلمع، الزيزان تصدر أصواتاً،
أسراب السنونو تدوّن شيئاً على الهواء
شيئاً ما انتهى
ولكن في الوقت الذي كنت متهيئاً للكشف عن مشاعري
نهضت العجوز وأغلقت الباب.


عمود

أحجار وأشواك وزيزان.
جفاف ممتد.
الآبار والجداول جفت.
الطيور هاجرت.
أشجار الزيتون ما زالت متشبثة بالقليل من الخضرة
والبحر يومض.
في مكان ما تظهر سفينة في الأفق. لم تتوقف.
الأطفال والعجائز ماتوا.
الشراشف تخدش.
عمود واحد ينتصب لامع طوال النهار والليل.
ثناسيس قال:
«سأعلتيه، وسأصرخ بالرب أن يمطر».
اعتلاه. صرخ. ولم تمطر.
ثناسيس سقط من العمود ودفن في اليوم التالي.


الخوف الآخر

قاوموا بثبات المخاوف القديمة. لم يحنوا رؤوسهم.
تعذيب، مناف، سجون.
وبانتظار تنفيذ إعدامه، يورغيس ترك رسالة لأمه: «لا تبكي.
فأنا أموت واقفاً. ولا تنسي أن تبلغي الجبال تحياتي، والطيور، والأشجار».
اليكسيس رسم منجلاً ومطرقة على جدار زنزانته
وتحتهما وضع اسمه.
الآخرون غنوا ورقصوا أمام فوهات البنادق.
قاوموا بثبات المخاوف القديمة.
لكنّ هذا الخوف صامتٌ حتى دون أن يتنفس،
خصم غير مرئيّ،
لا يشتمك، لا يضربك بهراوة،
لا يشهر مسدساً.
غير مرئيّ. ينتظر.. فقط.
إذن.. يجب أن تجهزوا ملابس اليوم الأخير،
في هدوء وكبرياء، أحذية سوداء.. جوارب سوداء،
بذلة سوداء.. وقرنفلة حمراء في الصدر
في ذكرى تلك الأيام.. والمخاوف المهزومة.
طاولة عمل
ها هي الطاولة التي دوّنتَ عليها أشعارك يومياً -
مزقها الرصاص، ونخرتها الديدان.
ليلاً غالباً ما تهب الرياح،
تصفر مثل ناي حين تمر عبر الثقوب،
في منتصف الليل تأتي العمة اورانيا*
وتضع على الطاولة حقيبتها البيضاء،
قفازها الأبيض، أساورها الخمس،
وتتمدد بجانبك. فيما تتظاهر أنت بالنوم،
من يعلم، ربما كنت نائماً حقاً.
*إحدى آلهة الإلهام التسع والمعنية بالعلوم الفلكية في الأساطير الإغريقية


هبوط العتمة

ألغي حفل هذا المساء.
ما عرفنا أبداً
من يرثون، وبم يحتفلون؟
فجأة اطفأوا الأنوار وغادروا.
من النافذة رأينا الموسيقيين
يجتازون الطريق بصمت
وعلى أكتافهم
آلات نحاسية كبيرة.
امكث هنا، إذن،
دخن سيجارتك
وسط هذا الهدوء العظيم،
وسط هذه المعجزة - لا شيء.
صماء هي التماثيل.
صماء هي القصائد.
العتمة حلّت.


ثلج

حاصرنا البرد.
عصافير جامدة على حواف النوافذ،
تحدق بعيون حزينة صغيرة داخل المنزل.
تنقر على الزجاج. ليس من يجيب.
جمعَ صغار الباعة سلالهم في الطريق.
ألغيت رحلات السفن.
حان وقت هبوط الثلج الأبيض الكثيف.
مفتاح القبو نسي عند قاعدة تمثال الفارس.
رد سريع
بين الشوك البريّ
زهرة صفراء ذهبية صغيرة
قال: ما الذي يجب فعله؟
أجبتَ: أجل
وكانت الشمس.


سلّم

هذا السلَم للشرفات الكبيرة،
للأشجار الباسقة،
تلك التي تسلقتها العجائز السبع
ونزعن أجنحة مخبأة تحت ثيابهن
في زمن أعمى، عار وأجوف،
زمن ممتد،
ملقى على الأرض
تخنقه الأحراش رويداً.. رويداً.
يغدو تراباً،
يغدو عشباً،
ليكون وليمة للنمل والدود.


دون وجه حق

وجوه متعبة، أيدٍ متعبة.
ذاكرة متعبة.
وهذه العزلة فقدت السمع.
الليل حلّ.
الأولاد كبروا، ذهبوا بعيداً.
الرسائل لم تعد تنتظرها.
وبعد ذلك
لا ترغب أن تسأل. دون وجه حق،
كل تلك السنوات التي تعذبت فيها
محاولاً أن تختم بالشمع على القناع الورقيّ
ابتسامة رضىً.
أغمض عينيك.


براءة

محل الزهور، بائع الفاكهة، البقال، المخبز،
الجزار أبعد قليلاً،
تمر امرأة حاملة رأس خس ضخم،
راقبها الشرطيّ،
وأنا كيف لي أن استعرض براءتي،
ليلاً تأتي مبكراً وعلى عجل لإخفائي،
النجوم تحول انتباهنا بلباقة.
وأنا كان كل حلمي
ورقة وحيدة مستحيلة
من ذلك الخس الضخم لدى المرأة الحزينة.

المركب الأسود

وحيداً في الليل، يجلس العجوز عند عتبة الدار.
حاملاً في يده تفاحة.
الآخرون أودعوا حياتهم في ذمة النجوم.
بماذا ستخبرهم؟ الليل هو ذاته.
لا نعلم ما سيأتي بعد.
القمر يتظاهر بأنه يتسلى،
يواصل إطلاق وميضه في البحر.
في وسط هذا السطوع
يمكنك رؤية المركب الأسود ببحّاره المجهول
وهو يجذف بهدوء لينأى بعيداً.
* من مجموعة «متأخراً.. متأخراً جداً في منتصف الليل» (1991)