باريس | تشهد القمة الـ28 للاتحاد الأفريقي، التي انطلقت أعمالها أمس الاثنين في مقر المنظمة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، معركة ليّ أذرع ضارية بين الجارين اللدودين المغرب والجزائر، وذلك على صُعد عدة، دبلوماسية وقانونية وأمنية.
اللافت أن هذا الصراع الجزائري ــ المغربي ألقى بظلاله على كافة استحقاقات القمة، بدءاً بمسألة تعيين رئيس الدولة الذي سيتولى الرئاسة الدورية لـ «الاتحاد»، وانتخاب رئيس الهيئة التنفيدية للمنظمة الأفريقية، التي تعرف باسم «المفوضية الأفريقية»، وصولاً إلى تجاذب النفوذ داخل «لجنة الأمن والسلم» الأفريقية، التي تهيمن عليها الجزائر منذ 15 عاماً.
وبذلك، سمّمت التجاذبات الجزائرية ــ المغربية كواليس القمة، على كافة الصُّعد. فلم يقتصر الأمر، كما كان متوقعاً، على مسألة البتّ في طلب عودة المغرب رسمياً إلى المنظمة الأفريقية، التي كانت قد انسحبت من عضويتها عام 1984، احتجاجاً على اعتراف «الاتحاد» (الذي كان يُعرف آنذاك باسم «منظمة الوحدة الأفريقية») بـ»الجمهورية الصحرواية»، المُعلنة من جانب واحد من قبل «جبهة بوليساريو»، والمدعومة من الجزائر، في الصراع الذي تفجر بينها وبين المملكة المغربية في إقليم الصحراء الغربية، إثر جلاء الاستعمار الإسباني عنه.
بالرغم من أن وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، صرّح عند وصوله إلى أديس أبابا، مساء الجمعة الماضي، عشية التئام الاجتماع الوزاري التحضيري للقمة، بأن «المغرب مرحّب به في الاتحاد الأفريقي، ما دام يعتبر نفسه متساوياً في الحقوق والواجبات مع بقية أعضاء الاتحاد الـ 54»، فإنّ مصادر تابعت عن كثب نقاشات الجلسة المغلقة لرؤساء دول الاتحاد الأفريقي (التي نوقشت خلالها مسألة عودة المغرب إلى «الاتحاد»)، صباح أمس، قالت إن القادة المشاركين في القمة فوجئوا بأن الجزائر وجنوب أفريقيا اللتين تعدان الدولتين الأفريقيتين الأكثر تأييداً لـ»الجمهورية الصحراوية»، تمسكتا بموقفهما المعارض لعودة المغرب، بحجة أن «قوانين الاتحاد لا تسمح بقبول عضوية دولة لا تزال تحتل أراضي دولة أخرى»!

عودة شائكة!

كان الملك المغربي، محمد السادس، قد شرع منذ ما يقارب عشر سنوات، بمساعٍ دبلوماسية حثيثة لاستعادة النفوذ السياسي والاقتصادي لبلاده وتوسيعه في القارة الأفريقية (موضوع ص 13)، خلافاً لوالده، الملك الحسن الثاني، الذي كان قد أدار ظهره للقارة السمراء، منذ منتصف الثمانينيات، مراهناً على ترسيخ صلات المغرب بالاتحاد الأوروبي.

بدا أنّ الجزائر قد حصدت
جوائز ترضية عدة مقابل
العودة المغربية


وتتويجاً للمنجزات الاقتصادية والدبلوماسية التي حققها المغرب على الصعيد الأفريقي، عبّر الملك المغربي في شهر تموز الماضي، عن رغبة بلاده في العودة إلى عضوية الاتحاد الأفريقي. ورأت اللجنة القانونية للاتحاد، في حينه، أن هذه العودة مشروطة، كما ينص عليه القانون الداخلي للمنظمة، بموافقة أغلبية الدولة الأعضاء، أي 28 دولة من مجموع 54.
ووفقاً للمصادر الدبلوماسية المغربية، فإن «المملكة الشريفية» استطاعت أن تحصل على تأييد 42 دولة أفريقية، ما خوّلها التقدم رسمياً بطلب العودة إلى صفوف الاتحاد الأفريقي في شهر أيلول الماضي. بالتالي، عُدَّت مسألة التصديق على قبول عضوية المغرب، بالنسبة إلى غالبية دول «الاتحاد»، مجرد إجراء بروتوكولي يندرج ضمن الاستحقاقات الروتينية التي عادة ما يوقع عليها القادة الأفارقة، خلال التآم قمة «الاتحاد».
لكن المحور الجزائري ــ الجنوب أفريقي، مدعوماً بـ 12 دولة أخرى، فتح معركة مضادة على الصعيد القانوني، لقطع الطريق أمام عودة المغرب. تجسّد ذلك من خلال رفع عريضة إلى اللجنة القانونية لـ «الاتحاد»، للطعن في قانونية قبول عضوية المغرب، على خلفية أنه «لا يزال يحتل أراضي دولة أخرى»، الأمر الذي وضع اللجنة أمام إشكالية قانونية شائكة. فبالرغم من أن دولة «الجمهورية الصحراوية» لا وجود لها على أرض الواقع، إلا أن المنظمة الأفريقية تعترف بها دولةً كاملة العضوية في «الاتحاد».
هذه المعضلة دفعت اللجنة القانونية، بعد ثلاثة أشهر من التجاذبات، إلى النأي بنفسها عن الصراع. وفي مذكرة قانونية من عشر صفحات، رفعتها إلى رئاسة «الاتحاد»، قالت اللجنة إنّ العريضة التي تقدمت بها الجزائر وجنوب أفريقيا تطرح «إشكاليات جوهرية ومهمة»، لكنها اعتبرت أن البت فيها ليس من صلاحيات اللجنة القانونية، بل يجب أن يحسمه قادة «دول الاتحاد»، خلال اجتماع القمة.
بالرغم من النبرة التوفيقية لتقرير اللجنة القانونية، فإنّ المغرب عدّه انتصاراً دبلوماسيا مهما. فإحالة القضية على رؤساء دول الاتحاد يجعل قبول عودة المغرب أمراً محسوماً سلفاً، لكون المغرب يحظى بتأييد 42 دولة من بين دول «الاتحاد» الـ 54. ولعلّ هذه التوازنات التي تصبّ في مصلحة المغرب، هي التي دفعت وزير الخارجية الجزائرية إلى إبداء المرونة في تصريحه الأخير، المرحّب (نظرياً) بعودة المغرب إلى صفوف «الاتحاد»!
لكن بدا أنّ تأييد غالبية القادة الأفارقة للمغرب لم يمنع الجزائر من مواصلة ضغوطها الدبلوماسية، خلال أعمال القمة. ضغوط انصبّت في محاولة الحدّ من اتساع النفوذ المغربي، بعدما بات واضحاً أن «المملكة الشريفية» كسبت معركة افتكاك عضويتها مجدداً في الاتحاد الأفريقي. وأثمرت تلك الضغوط قرارات عدة اتخذتها القمة الأفريقية، على سبيل ترضية الجزائر.
أحد قرارات الترضية تلك تمثّل في تعيين الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقه، نائباً لرئيس الاتحاد الأفريقي. وهو أمر مثير، بالنظر إلى الحالة الصحية للرئيس الجزائري المقعد، الذي لا يستطيع تكبد مشاق الأسفار والجهود الدبلوماسية التي يقتضيها منصب كهذا.
ورافقت خطوة التعيين الرئيس الجزائري (رمزياً) في منصب نائب رئيس الاتحاد الأفريقي خطوة أكثر أهمية تمثلت في هوية الرئيس الذي جرت تزكيته لتولي الرئاسة الدورية لـ «الاتحاد»، وهو رئيس جمهورية غينيا (اليساري) ألفا كوندي، المقرّب من المحور الجزائري ــ الجنوب أفريقي. وقد عُيِّن أمس في خلال اجتماع القادة الأفارقة، رئيساً لـ»الاتحاد»، لأربع سنوات، خلفاً للتشادي، إدريس دبي، المعروف هو الآخر بقربه من الجزائر.
أما المكسب الدبلوماسي الأهم الذي حققته الجزائر، فقد تمثل في تزكية المرشح المدعوم من قبلها لمنصب رئاسة «المفوضية الأفريقية»، وهي الهيئة التنفيذية التي تمتلك الصلاحيات الأوسع داخل «الاتحاد». وكانت الجزائر قد أيدت المرشح التشادي موسى فكي محمد، وألقت بكل ثقلها الدبلوماسي لإيصاله الى رئاسة «المفوضية»، من أجل قطع الطريق أمام المرشح الأبرز، السنغالي عبدولاي باتيلي، الذي رأت فيه الجزائر تهديداً لنفوذها في «الاتحاد الأفريقي»، لأن التقارب المغربي ــ السنغالي، منذ وصول ماكي سال إلى الحكم، عام 2012، جعل من السنغال البوابة الرئيسيّة لتنامي النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي المغربي في القارة السمراء.
وبتولي موسى فكي محمد رئاسة «المفوضية الأفريقية»، لمدة أربع سنوات، تكون الجزائر ضد ضمنت استمرار نفوذها داخل «لجنة الأمن والسلم» التابعة للمفوضية، والتي تهيمن عليها الدبلوماسية الجزائرية منذ 15 سنة. وتعدّ هذه اللجنة إحدى هيئات «الاتحاد الأفريقي» الأكثر فاعلية، ولها أهمية قصوى من وجهة النظر الجيو ــ استراتيجية، وخاصة بالنسبة إلى المحور الجزائري ــ الجنوب أفريقي، الذي يتطلع إلى التصدي من خلالها لأي مخططات تدخل أجنبية في الشؤون السياسية والأمنية للقارة السمراء.