لا جدار هنا. شارعان صغيران يتفرّعان من الشارع الرئيسي، يشدّانك بروائح الطبخ وأصوات الأولاد يتراكضون بين أدراج وأرصفة. فتاة صغيرة بفستان أصفر وشعر منفوش ترتدي حذاء أمها ذات الكعب العالي، وتركض وراء صبي أكبر منها وتريد ضربه. إنها يارا، صديقتي التي أراها كل يوم، تلعب مع الصبيان في الحارة التي يسكنها عمّال من الهند وبنغلادش وسريلانكا ولاجئون سوريون وسائقو سيارات عمومية. من ذلك الشارع، وبعد زاروب صغير مقفل، مركونة فيه سيارة السرفيس لسكان الطبقة الأرضية، يطلّ القصر من شارع اللبّان، ويحجب الشمس.
خطوات قليلة، تفصل الشارع البورجوازي عمّا يبدو كأنه شارع في منطقة بعيدة: تضادّ واختلافات، واجهة لامعة وزاروب خلفي للنشاطات غير المحبوبة في المدينة. المدينة غالباً ما تكذب، لكنها أحياناً تجبر على الظهور ولو لمساحة شارع واحد، على ما هي عليه، فيظهر الجدار الحقيقي.
كل مدينة مدينتان، كعالمي «أليس في بلاد العجائب». عالم رسمي ومعترف به، وعالم آخر غير مرئي، لا يريدون الكلام عنه ولا يريدون ظهوره. وفي العالم الثاني، أدوات خلق وصيانة واستمرارية الأول. هو العالم الذي يعيش فيه بناة العالم الأول باختلاف أعمالهم وأعمالهن.

الذوق العام الحالي للعمارة في بيروت ولبنان عامّة يعتمد على عمارة دبي الما بعد رأسمالية


عالم الأغنياء: الأحياء الراقية التي يعتبرها الخطاب المهيمن «هي المدينة»، فردان، الحمرا، راس بيروت، الروشة، وبالطبع الوسط «التجاري» لبيروت. بالنسبة إليهم «هذه هي بيروت» فقط. في الصور والأفلام والمواد الدعائية أي في الذاكرة الجماعية لمن يعرف بيروت أو لا يعرفها، تصبح هذه هي بيروت. أما حي اللجا، والبسطة، والخندق الغميق والجعيتاوي وبربور وكرم الزيتون؟ من يريد الكلام عن بيروت الحقيقية؟
ما زلنا نتكلّم عن أحياء «شعبية» ضمن الحدود العقارية لبيروت، فما بالكم/نّ بالعشوائيات مثلاً أو بالضواحي؟ إنها أحياء لامرئية. الخطاب المهيمن لا يريدنا أن نراها، ولا أن نرى أهلها. في ظل النظام الرأسمالي، تصبح المدينة آلة هائلة لإنتاج المال وتدويره. وتظهر إحدى نتائج هذا الواقع، في عملية خلق أحياء خاصة لإيواء عاملات وعمّال المدن، أي مشغّلي هذه الآلة. لذلك، ولهذا السبب وحده «تتحمّل» المدينة وجود الطبقة العاملة وجميع أشكال المهمشين فيها. تختلف الأحياء الشعبية هذه عن الأحياء البورجوازية بأشكال عديدة، وتشبه الأحياء الشعبية أحياناً، الواجهة الخلفية للمبنى الزجاجي المعاصر المتقن التصميم: هي تلك الأشياء والتمديدات والأدوات التي تجعل المبنى على ما هو عليه، غير أنها مرمية في الخلف، على أمل ألّا يراها أحد. أوّلاً، تختلف في البنى التحتية ونوع الخدمات التي تصلها وجودتها. إذ تمارس الدولة تمييزاً طبقياً ضد أهل هذه الأحياء.
لا يخفى على أحد مثلاً أن بيروت الكبرى وخاصة راس بيروت تتلقى العدد الأدنى من ساعات تقنين الكهرباء، بينما تعاني برجا والناعمة مثلاً، بين 6 وعشر ساعات من التقنين (مقارنة بثلاث في راس بيروت). كما أن الدولة غالباً ما توجّه إنشاء المعامل والمنشآت ذات الضرر البيئي والصحي أو تنشئها بعيداً عن الوسط، وفي قلب المناطق الشعبية، مؤثّرة بذلك على نوعية حياة الطبقة المهمشة أصلاً، ومقلّصة من سهولة المعيشة في تلك المناطق. ويعود هذا إلى كون سكان الأحياء الشعبية، في معظم الأوقات، من منطقة مختلفة (سجلّ النفوس) عن المنطقة التي يسكنون، أو عمالاً وعاملات مهاجرين ولاجئين/ات، فتقوم البلدية بتهميشهم أكثر، علماً منها بأنهم لن يؤثّروا في انتخابها أو محاسبتها. ثانياً، وفي مسألة العقارات، يكون عدد كبير من المباني في المناطق الشعبية غالباً في وضع «غير قانوني». يؤدّي هذا الوضع إلى أمرين أساسيين: الأول تهديد الأمان السكني لأهل المنطقة، والثاني وصم المنطقة بغياب القانون والدعوة إلى إزالتها. غير أن تعدّي البورجوازية على قانون البناء يواجه بشكل مختلف تماماً. بينما يُنظر إلى العشوائيات بشكل سلبي بحجّة تعديها على القانون، يتمّ بيع المشاعات في عدد كبير من القرى والمدن، لبورجوازية أهل المنطقة، في تمييز طبقي صارخ لمن يطبّق عليه القانون ومن يستطيع بماله أن يغيّر القانون. يعتبر التعدّي على الرملة البيضا في بيروت مثالاً صارخاً لذلك، وخاصة بمجاورتها منطقة السان سيمون ــ الأوزاعي (ويسكنها أبناء الجنوب وبناته الذين تهجّروا في الحرب، ولاجئون/ات سوريون) التي قد يُقال إنها مكان موبوء، غير شرعي، وبحاجة إلى الإزالة.
ثالثاً، في الشكل. والشكل لا ينحصر في الواجهة الأمامية للمباني، بل بشكل الشوارع والأرصفة والمحال واكتظاظ الحي ككلّ. أذكر أنني شاركت في نقاش عن شكل بيوت العشوائيات، فاقترح أحدهم أن تكون هناك «مقاييس» لهذه البيوت لأن شكلها كان يزعجه كثيراً، معلّلاً ذلك بالذوق المتدنّي لسكانها. يتمّ عامّة النظر إلى المبنى/ المسكن عبر غربال الذوق المعاصر للعمارة. في الستينيات، كان الطراز الحديث هو «الجميل» وغيره قديم وبالٍ. لا يخفى على أحد أنّ الذوق العام الحالي للعمارة في بيروت ولبنان عامّة، يعتمد على عمارة دبي الما بعد رأسمالية كغربال أساس. إذا تخطّينا دبي كشكل معماري ومديني، فالمشكلة أيضاً في تثبيت وفرض معيار واحد، شكل واحد، طراز واحد للمباني أي للمدينة. من جهة، تحمل المدينة طبقات تطورها وتغيرها من لحظة نشوئها حتى اليوم، من آثار القرون الماضية حتى ماضيها الحديث حتى شكلها المعاصر. من جهة أخرى، فرض شكل معيّن على المناطق الشعبية فقط، واعتبار أهلها لا يتحلّون بالذوق، وهو رأي لا يحمله هذا الشخص فقط، بل هو خطاب موجود ومسيطر، هو تمييز طبقي مرّة أخرى، وتدخّل في قرارات الناس وقدرتها وحقها بتشكيل مساحاتها، على أساس طبقي بحت.
رابعاً، التنميط. يقود عامل الشكل والتشكيل إلى حجّة أساسية تستعمل لإزلة الأحياء الشعبية: الستريوتايبينغ. هكذا يدفع الـ«استبلاشمنت» والمجتمع إلى اعتبار الأحياء كمكان موبوء ومنتج للمشاكل من جهة، وكمكان يسهل بل يجب التضحية به وتغييره ولو كان ذلك من دون الأخذ برأي سكانه وساكناته. ويتم ذلك بتشكيل صورة سيئة عن الأحياء الشعبية، تخلق وصمة عليها وعلى سكانها. فأهل البقاع مثلاً كلهم مهرّبون أو يتاجرون بالحشيش، وأهل المساكن الشعبية في صور «زعران»، والفلسطينيون في مخيم عين الحلوة إسلاميون ويتبعون لـ«داعش». لا نجد من يسأل عمّا يجري في المناطق البورجوازية، لا مشاكل ولا جرائم ولا مخدرات هناك... ولا تطرّف. ولا بحث جدياً في سبب التطرف هنا وهناك. والتنميط يصنع جداراً أصلب من الباطون المسلّح.

التنميط يصنع جداراً أصلب من الباطون المسلّح: أهل البقاع تجّار حشيش، والفلسطينيون دواعش...


خامساً، بُعد الأحياء عن المركز. تلعب سوق العقارات دور الطارد للمهمشين والطبقة العاملة، محاولةً إخفاءهم عن النظر من جهة، وحجز الأراضي القريبة من المركز للسيّاح والبورجوازية الوطنية ورجال الأعمال. تنشأ حينها دوائر متعدّدة حول المركز، يرتفع داخلها سعر الأرض كلما اقتربت من الوسط، ويتناقص كلما ابتعدت. وتتناقص معها إذاً الخدمات ونوعيتها ووجود الدولة. ومن المهم أن نراقب مناطق كالخندق الغميق والنويري والبسطة التحتا أو زقاق البلاط في بيروت مثلاً، والتي هي أحياء ملاصقة أو مجاورة للوسط التجاري لبيروت، تسكنها الطبقة العاملة وأبناء القرى وبناتها. ومن غير المفاجئ، إذا نظرنا إليها عبر المنظار الذي نطرحه هنا، أن تتعامل معها الدولة والبورجوازية بالشكل الذي تتعامل به الآن: إمّا بهجمة شعواء لاقتناص العقارات وتطويرها، أو برفع الصوت عن بشاعة هذه المناطق والحاجة إلى تطويرها. ويحصل كل ذلك تحت تأثير المضاربات العقارية والتغيير النهائي لشكل هذه الأحياء ونسف تاريخها وهويتها تماماً. والجدران هنا تصير إضافة، أداة للضغط النفسي، المضاف إلى ضغط موجود أصلاً بسبب التمايز عن المحيط الثري.
تدريجاً، تظهر قوة طاردة تعمل دون كلل على الدفع بالأحياء الشعبية وساكنيها إلى مكان بعيد عن المركز. لا يجتمع سكان هؤلاء المناطق إلّا في الخدمات التي يؤمّنها أبناء المناطق الشعبية لأبناء المناطق البورجوازية. يشكّل «فان (باص) رقم 4» الشهير، تمظهراً لعملية الطرد هذه ولعلاقة المركز بالهامش. يؤمّن هذا الفان بالذات، وسيلة نقل رخيصة تصل سكّان الضاحيتين الجنوبية والجنوبية الشرقية (الشياح) أي العمال والعاملات، بأماكن العمل الأساسية في بيروت، أي كورنيش المزرعة والوسط التجاري والحمرا. وفي تأمينه لهذا الربط، يشكّل هذا الفان عصباً أساسياً في اقتصاد المدينة. فهو يعمل طوال النهار ولساعات متأخرة من الليل، بربط مسافات بعيدة نسبياً (نحو 10 كيلومترات من الوسط التجاري حتى الجامعة اللبنانية في الحدث)، وبكلفة قليلة (1000 ليرة)، رابطاً أحياء سكن العمال/ العاملات ودراستهم (الجامعة اللبنانية في الحدث) بأماكن عملهم (الحمرا، الوسط التجاري، الخ). وهو يسهّل على النظام التعاطي مع فكرة وجود هؤلاء العمال ــ فقراء المدن: يستطيع الإفادة من قدرتهم/نّ الإنتاجية من دون الحاجة إلى تقريب مساكنهم وأحيائهم إلى الوسط.
أحياناً، تختفي الجدران ــ أو المتاريس أحياناً ــ بين أحياء الفقراء والأحياء الراقية، وفي اختفائها، تظهير لزيف النظام ولبناة المدينة الحقيقيين.
هم الذين واللواتي يعبرون كل يوم، قبل الشروق، وبعد المغيب، في رحلة دقائق مساحات شاسعة من التفاوتات الطبقية، والظلم. فكرت يوماً وأنا في الفان أسمع قصص شاب عشريني يعمل حارساً ليلياً في الوسط التجاري، أنه إذا ما انطلقت ثورة في بيروت يوماً، فهي ستنطلق من «الفان رقم 4». «فان» الفقراء الذين يعرفون صعوبة العيش في الضواحي، ويرون كل يوم، سهولة العيش في الوسط وترفه.




مدن تحت الحصار

في كتابه «مدن تحت الحصار» Cities Under Siege، الصادر عام 2011، يركّز الكاتب البريطاني ستيفان غراهام على ظهور نموذج حديث للمدن، تُطلق عليه تسمية «المدن المعسكرة» The Militarization of The Cities. يتحدث الكاتب عن استمرار الحروب الأوروبية الاستعمارية، من خلال «تسيير السكان تحت المراقبة التامة». بالنسبة إلى غراهام، السياسات التنظيمية التي يفرضها أصحاب القرار في المدينة، تتناقض مع الحياة المدينية الاجتماعية لسكان المدينة في الحياة الواقعية، لكنهما مرتبطان بشكل وثيق من خلال خطاب وممارسة عمليات التحصين العسكري وتكنولوجيا وتقنيات المراقبة، أي أن التوجه المستمر الذي تعتمده السياسات التنظيمية نحو «حماية» و«مراقبة» المساحات المدينية وتفرضه على سكان المدينة، أصبح نموذجاً معتمداً من قبل السكان أنفسهم من خلال المراقبة المبالغ فيها «للمساحات الخاصة» أي المنزل ومحيطه. وهذا ما يؤكد على طبيعة علاقة مفككة للساكن (ككائن اجتماعي) بالمدينة كمنظومة مكانية ــ سياسية ــ اجتماعية.
يوغل غراهام في كتابه في دراسة «عولمة» تقنيات المراقبة ودورها في السماح للدول الغربية بتعقّب الأنظمة والناس داخل المدن، والتي تأتي على نحو متزايد وبهدف مزدوج وهو «مراقبة وحماية» حركة الإنسان والمجتمع. وهذا ما نستورده، غالباً في لبنان، من دون تدقيق أو فهم للآثار المترتبة على محاصرة السكان، وبأدوات متعددة، أحياناً من باب المزاح تتجاوز الخطاب الغربي الاستعماري نفسه تعقيداً. في أي حال، وحسب غراهام، الليبرالية الحديثة والنظام «الإمبريالي» لعبا دوراً أساسياً في عسكرة المساحات الحضرية. هذه القوة حولت العديد من مدن «الجنوب» إلى حيّز «وحشي» يخيف «الجيوش» الغربية ومستهدفة من قبلهم على نحو متزايد (إن كان في قلب المدينة أو على الأطراف)، فالعملية مترابطة على نحو ممنهج. ويعتمد غراهام أيضاً على نظريات فوكو «التأثير المرتد» Boomerang effect، في شرحه هذا السياق المتداخل الذي يمثّل تشارك وتبادل المعلومات بين مختلف الأجهزة العسكرية، الاستخبارات والشرطة بين مختلف دول العالم بهدف تحضير أرضية مشتركة للمساحات المراقبة في حيّز المدينة. 
إلى ذلك، يغوص غراهام في القضايا المدينية التي تخضع لسيطرة و«تسلط» العقيدة العسكرية، إذ تقوم السلطات العسكرية المسيطرة داخل المدينة (قوات الأمن العسكرية والشركات الأمنية الخاصة)  «بغزو المدينة» والتحكم بالنماذج المدينية ــ الاجتماعية التي تنتجها داخل المدينة. ويعطي غراهام مثالاً: التقنيات التي استخدمت في تطويق وحماية مناطق الوجود العسكري الأميركي في العراق وتلك المعتمدة في حصار سكان غزة والضفة الغربية من قبل العدو الإسرائيلي. تقنيات تُباع في مختلف أرجاء العالم كتقنية متطورة وحديثة، و«محصنة ضد القتال» من قبل «شركات متحدة تربط إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بشركات خاصة وعبر دول أحياناً».
أحد الأمثلة التي يقدمها لتفكيك هذا الخطاب المهيمن على المدينة، هي عن مدينتي نيويورك ولندن. يتحدّث عن بناء «مربعات أمنية» (security zones) في محيط المراكز المالية والتجارية الاستراتيجية والأحياء الحكومية التي تعتمد في تقنيات بنائها على تكنولوجيا مستوردة ومعتمدة في نماذج القواعد البحرية و«المنطقة الخضراء» (Green Zones) كالمنطقة التي حددها الأميركان داخل بغداد، كمركز لسلطة الائتلاف المؤقتة التي تشكلت بعد الاجتياح الأميركي للعراق. وهذه النماذج، صارت نماذج. والحديث في بيروت عن «مربعات أمنية»، يطول ويطول ويطول...