"روسيا ستأخذ في الحسبان أن من اتّخذ قرار فرض العقوبات الجديدة هو أوباما الذي لم يبق له سوى ثلاثة أسابيع في منصب الرئاسة". بهذه الكلمات الباردة ردّ ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، على قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما فرض عقوبات جديدة على روسيا، وذلك على خلفية الاتهامات الأميركية بشأن عمليات "القرصنة الالكترونية" المزعومة.
قبل ذلك ببضعة أسابيع، كان مجلس الدوما الروسي يستقبل خبر فوز دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، في السباق الأخير إلى البيت الأبيض، بكثير من التصفيق الحار، بينما كان فلاديمير جيرينوفسكي، نائب رئيس مجلس الدوما، يعبّر عن فرحة النواب الروس بالقول: "لقد فاز مرشحنا دونالد... الجدة هيلاري يجب أن تذهب إلى منزلها".
ثمة ما يفسّر برودة المتحدث الرئاسي الروسي تجاه العقوبات الأميركية الأخيرة، وحرارة نواب مجلس الدوما تجاه فوز ترامب؛ فالمسؤولون الروس يدركون أنّ التحوّل في السياسة الأميركية تجاه روسيا آتٍ، بعدما بلغت العدوانية الأميركية تجاه روسيا ذروتها في الولاية الثانية لباراك أوباما، ولكنهم يرون أن ثمة حاجة إلى عدم الجنوح نحو التفاؤل المفرط، في ظل عوامل الكبح الداخلية والخارجية التي تمنع دونالد ترامب من الذهاب إلى أبعد مما تتحمله الـ"استابليشمت" العابرة للإدارات.

قد تستند المقاربة الخارجية للترامبية إلى براغماتية رجل الأعمال


على هذا الأساس، فإنّ إحجام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المعروف بمهارته في إبقاء العديد من الخطوات أمام خصومه، عن الرد على الاستفزاز الأوبامي، كان بمثابة عرض ديبلوماسي للتعاون مع ترامب، بما يمهّد الطريق أمام انطلاقة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة، وهو ما رد عليه الرئيس المنتخب، عبر حسابه على موقع "تويتر"، قائلاً إنها "خطوة عظيمة... لطالما عرفت أنه رجل ذكي".
ما تمّ فهمه حتى الآن من تصريحات ترامب يشي بأن الرئيس الجديد سيتخلى عن الكثير من سياسات سلفه تجاه روسيا، وهذا الأمر نابع في الأساس من أن المقاربة الترامبية للسياسة الخارجية قد تستند إلى براغماتية رجل الأعمال الذي يُحسن قياس ميزان الربح والخسارة، في الاقتصاد كما في السياسة.
ولكن ثمة اختلافات في وجهات الرأي، داخل مراكز القرار في موسكو، حول ملامح السياسة الترامبية الجديدة، حيث يجري العمل على فك شيفرات تصريحات الرئيس الأميركي، وبالتحديد تلك التي أعقبت "الثلاثاء الكبير"، والتي وحدها يمكن التعويل عليها، خصوصاً أن ثمة إجماعاً بين المراقبين على أن مواقف ترامب المرشح لن تكون نفسها بالنسبة إلى ترامب الرئيس.
وفيما يدور الحديث اليوم عن مقايضة روسية ــ أميركية تقوم على فكرة قبول روسيا بالتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم "داعش"، وذلك ضمن تفاهمات واضحة يتعدى نطاقها سوريا والعراق، في مقابل الاعتراف بالخطوات الروسية في القرم، وبالتالي رفع العقوبات الدولية، إلا أن أي تحرّك من قبل ترامب باتجاه روسيا سيواجه بقاومة شديدة.
ومن المرجّح أن تكون العقبة الأولى أمام ترامب في أي تقارب محتمل مع روسيا هي دائرة المسؤولين والمستشارين المحيطين به؛ فنائب الرئيس مايك بنس سبق أن وصف بوتين بأنه "بلطجي صغير"، وهو يرى أن "الاستفزازات الروسية يجب أن تواجه بتعزيز قوة أميركا". كذلك، فإن مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بامبيو، سبق أن وصف الرد الأميركي على "العدوان" الروسي في القرم بأنه "ضعيف للغاية". أمّا وزير الدفاع جيمس ماتيس فرأى أن "التهديد الرئيسي هو روسيا، وأي أمة أخرى تقوم بتخويف الدول الأخرى المجاورة لها".
في المقابل، قد يجد ترامب سنداً في توجهاته الايجابية المحتملة تجاه روسيا عبر مستشاره للأمن القومي مايكل فلين، الذي خاض في السابق صراعاً مريراً مع صقور "البنتاغون" على خلفية دعواته إلى التنسيق العسكري مع الروس، رغم وصفه الرئيس بوتين بأنه "دكتاتور شمولي وبلطجي". وكذلك الحال بالنسبة إلى وزير الخارجية ريكس تلرسون، الآتي إلى الإدارة الأميركية من بوابة شركات النفط والغاز، والذي يبدي رغبة في التعامل بشكل وثيق مع روسيا، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، للتوصل إلى تفاهمات في الكثير من الملفات الشائكة، بما في ذلك سوريا وأوكرانيا، فضلاً عن ملف إمدادات الطاقة في أوروبا.
وأما العقبة الثانية، فستكون في الكونغرس الذي تتصاعد فيه الأصوات، سواء الجمهورية أو الديموقراطية، ضد السياسات الروسية، حتى إن الكثيرين من قادة الحزب الجمهوري لطالما انتقدوا الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما بسبب موقفه "الفاتر" من خطوة بوتين في شبه جزيرة القرم، لا بل إن كثيرين طالبوا بفرض عقوبات أقوى على روسيا على خلفية دعم المسلحين الموالين لها في الشرق الأوكراني، فضلاً عن سلسلة قرارات ضد روسيا اتخذها النواب والشيوخ الأميركيون خلال الفترة الماضية.
وبالرغم من أن ترامب يستطيع إلغاء بعض العقوبات الأميركية التي فرضت على روسيا من جانب أوباما عبر أوامر تنفيذية ــ وهو سبق أن تعهد بإلغاء تلك العقوبات بعد حين ــ فإن البعض الآخر يتطلب العمل في الكونغرس، ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، عقوبات فرضتها الولايات المتحدة على عشرات الروس المتورطين في ما تسمّيه واشنطن "انتهاكات حقوق الإنسان" في ظل قانون ماغنيتسكي 2012، الذي يعدّ شوكة كبيرة في العلاقات الأميركية ــ الروسية.
ربما يفسّر كل ما تقدّم السباق مع الزمن الذي خاضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الأسابيع الماضية، لوضع الأسس الجديدة لقواعد اللعبة مع الرئيس الجديد. وما يمكن رصده في هذا المجال أن الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة (8 تشرين الثاني 2016 ــ 20 كانون الثاني 2017) شهدت تحرّكات روسية غير مسبوقة ــ حتى إن أحد المراقبين الروس قال إن ما قامت به روسيا خلال هذه الفترة يتجاوز كل تحركاتها خلال أربع سنوات ــ بدءاً بسوريا، حيث جرى العمل على حسم معركة حلب والإعداد للقاء أستانة، وصولاً إلى ليبيا، حيث تكثفت الاتصالات الروسية مع الجنرال خليفة حفتر الذي ظهر فجأة على متن حاملة الطائرات "الأميرال كوزنيتسوف"، وبينهما تركيا، حيث تتواصل خطوات التقارب على المستويين السياسي والاقتصادي، في سياق عملية التطبيع التي أعقبت اعتذار رجب طيب أردوغان عن حادثة إسقاط "السوخوي"... الخ.
ورغم كل تلك التعقيدات، فإن العلاقات الأميركية ــ الروسية في عهد ترامب ستشهد تقدماً، قياساً إلى ما كانت عليه في عهد أوباما، ولكن أي تقدّم يبقى ضمن إطار الخطوات الحذرة على رقعة الشطرنج الدولية، والتي ربما تبدأ بالمربعات السورية، خصوصاً أن بوتين قد قام بالنقلة الأولى في هذا الإطار، بقرار سحب السفن الحربية، وتوجيه الدعوة إلى فريق ترامب للمشاركة في اجتماع أستانة.