يكثر الحديث عن بداية «نهج جديد» في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، قد تشهد تغييرات جذرية في علاقات واشنطن مع شركائها التقليديين وخصومها، ولا سيما الصين. لكن حتى الساعة، لا تزال ملامح السياسة الخارجية الأميركية المتوقعة في ظل إدارة دونالد ترامب غير واضحة. ففضلاً عن شخصية الرئيس المنتخب المتقلبة وتصريحاته العشوائية وانعدام خبرته السياسية والدبلوماسية، فإن فريقه غير منسجم، بل متناقض، ما يعقّد إمكانية استشراف سياسته الخارجية وموقف إدارته من الكثير من الملفات الحساسة التي سيرثها عن الرئيس الأميركي باراك أوباما.
ووسط كل هذا الغموض، فإنّ هناك رأياً ثابتاً يتشاركه ترامب مع أبرز الشخصيات التي أحاط نفسه بها، وهو ضرورة وضع حد للخصم الاقتصادي الأول للولايات المتحدة الأميركية، الصين.
حتى قبل انتقاله إلى البيت الأبيض، دخل ترامب في مواجهة مبكرة مع الصين، التي اتهمها بـ«اغتصاب» بلاده اقتصادياً من خلال «التلاعب» بالعملة بهدف كسب ميزة لصادراتها وزيادة الرسوم على الواردات الأميركية (حجم التبادل التجاري بين البلدين يبلغ 600 مليار دولار). كما وصف السياسة التجارية «غير العادلة» التي تتبناها الصين بـ«أكبر عملية سرقة في التاريخ»، ووعد باتخاذ قرارات ستساهم في تعزيز القدرة التنافسية للشركات والمنتجات الأميركية، ومن ضمنها فرض رسوم جمركية على السلع الصينية وخفض معدل الضريبة على الشركات الأميركية.

ينظر ترامب إلى علاقات واشنطن الخارجية على أنها صفقات تجارية


ولمساعدته على تحقيق ذلك، عيّن الرئيس المنتخب الملياردير والخبير الاقتصادي والمدرس بجامعة كاليفورنيا، بيتر نافارو، المعروف بعدائيته تجاه الصين وانتقاده الدائم لها، لقيادة «المجلس الوطني للتجارة»، الذي أنشئ حديثاً في البيت الأبيض. وقال ترامب إن نافارو، الذي سبق أن وصف الحكومة الصينية بأنها «قوة إمبريالية شمولية حقيرة، طفيلية، فجة، لا أخلاقية، وبلا رحمة»، سيعمل على «وضع سياسات تجارية ستساهم في خفض عجزنا التجاري وستعزز نمونا وستحد من انتقال الوظائف إلى بلدان أخرى». ولدى نافارو كتاب بعنوان «كيف فقدت أميركا قاعدتها الصناعية»، ينتقد فيه الحرب الاقتصادية التي تقوم بها الصين وطموحها في أن تصبح أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في المنطقة.
وخلافاً لما كان متوقعاً، ازدادت حدّة تصريحات ترامب المعادية للصين بُعيد انتخابه، ووصلت إلى حد التشكيك بضرورة التزام واشنطن بسياسة «الصين الموحدة» التي تعتبرها بكين «الأساس السياسي» للعلاقات الثنائية مع مختلف الدول، ومن بينها الولايات المتحدة. وفي مقابلة أجراها مع صحيفة «وول ستريت جورنال» نهاية الأسبوع الماضي، أكّد ترامب أن «سياسة الصين الواحدة قابلة للتفاوض» وأنه «غير ملتزم بها تماماً» ما لم تقدم الصين تنازلات على الصعيد التجاري. كما كرر اتهامه بكين بـ«التلاعب بالعملة عن قصد»، مؤكداً أنّ «شركاتنا لا يمكن أن تتنافس مع الصين الآن لأن عملتنا قوية... عملتنا تقتلنا».
مسألة تايوان: استفزازات مرفوضة
ويرى المحللون أن ترامب، الذي أصدر كتاباً بعنوان «فن إتمام الصفقات»، يتعامل مع علاقات واشنطن الخارجية كصفقات تجارية بحتة، ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية على الاقتصاد والأمن الأميركيين. فبكين شدّدت على أن سياسة «الصين الواحدة»، وهي اعتراف دبلوماسي بأنه ليس هناك في العالم سوى صين واحدة وتايوان جزء لا يتجزأ منها، «غير قابلة للتفاوض»، محذرة من أن «عدم احترام الالتزامات التي قطعتها الإدارات الأميركية السابقة يعرّض للخطر التنمية المستقرة للعلاقات الثنائية والتعاون في المجالات الرئيسية بين البلدين».
أما صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، فقد قالت إن «سياسة الصين الواحدة ليست للبيع... لا يمكن بيع وشراء كل شيء كما يعتقد ترامب»، مشيرة إلى أن على الرئيس المنتخب أن «يتعلم كيفية التعامل بتواضع مع الشؤون الخارجية، وخاصةً في ما يتعلق بالعلاقات الصينية ــ الأميركية».
وتأتي تصريحات ترامب الأخيرة في سياق الحملة «الاستفزازية» التي يمارسها على الصين. فالرئيس الجمهوري خرق أربعين عاماً من التقليد الدبلوماسي عندما قبل اتصالاً هاتفياً من رئيسة تايوان، تساي اينغ وين، لتهنئته بانتخابه، الأمر الذي وصفه حينها وزير الخارجية الصيني بـ«العمل التافه» من قبل تايوان. وعلى ما يبدو، فإن تايوان تحاول التقرّب من «الحزب الجمهوري» الذي سيحكم البلاد في السنوات المقبلة، إذ التقت تساي الأسبوع الماضي بالسيناتور الجمهوري، تيد كروز، في هيوستن بتكساس جنوب الولايات المتحدة، لبحث «مبيعات الأسلحة والتبادلات الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية». وهاجم كروز، الذي يعتبر أنّ التعاون الاقتصادي بين تايوان والولايات المتحدة «أولوية»، طلب القنصلية الصينية من أعضاء الكونغرس «عدم لقاء الرئيسة تساي واحترام سياسة الصين الواحدة»، مؤكداً أنه «في أميركا، نقرر بأنفسنا الزوار الذين نلتقي بهم... بمن فيهم التايوانيون». ومن المتوقع أن يشارك وفد تايواني يرأسه رئيس الحكومة السابق، يو شي كون، في مراسم تنصيب ترامب، بالرغم من معارضة الصين التي حثت الولايات المتحدة على منع مشاركة الوفد.
وفي حين رحّب بعض التايوانيين بالتقارب الأميركي ــ التايواني، حذّرت المعارضة التايوانية من انخراط البلاد في «لعبة الشطرنج» التي يلعبها ترامب، وأكّدت ضرورة أن يحافظ «بلد صغير» مثل تايوان على علاقات جيدة مع جميع القوى الرئيسية في العالم، ومن ضمنها الصين. وهذا ما أكدته بعض الصحف الأجنبية، التي حذّرت من أن استعمال ترامب لتايوان كـ«ورقة ضغط» على الصين (من دون أن يكترث لرغبة الشعب التايواني) سيحوّل الجزيرة إلى ساحة معركة.
بحر الصين الجنوبي: معركة كبرى
بالنسبة إلى الصحافة الصينية، فإنّ تصريحات مرشح دونالد ترامب لمنصب وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، الأخيرة حول النشاط العسكري والاقتصادي الصيني في بحر الصين الجنوبي «ستمهد الطريق أمام مواجهة مدمرة بين الصين والولايات المتحدة». والأسبوع الماضي، قال تيلرسون، في جلسة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ للمصادقة على تعيينه، إنه ينبغي على الولايات المتحدة «منع الصين من الوصول إلى الجزر والمنشآت العسكرية التي شيدتها في بحر الصين الجنوبي»، مشبهاً حملة تشييد بكين لهذه الجزر بـ«الغزو الروسي للقرم».
ويذهب محللون إلى القول إن «الخطر الأكبر على الاستقرار العالمي» يكمن في بحر الصين الجنوبي، الذي يمثّل شرياناً بحريّاً حيويّاً للتجارة العالمية نظراً إلى كونه بوابة عبور لحوالى نصف السفن التجارية في العالم. وسبق أن عبّر عدد من الجمهوريين، ومن ضمنهم ترامب، عن قلقهم من أهداف الصين «التوسعية» في هذه المنطقة التي تشهد عدداً من النزاعات الإقليمية بين العديد من الدول، ومن أي محاولة مستقبلية لـ«تقييد حرية الملاحة».
وفي حين اكتفت وزارة الخارجية الصينية بدعوة واشنطن إلى احترام «الإجماع الموجود في المنطقة والذي هو من مصلحة العالم بأسره»، رأت صحيفة «غلوبال تايمز» في افتتاحيتها أن «على تيلرسون أن يعمل على استراتيجيات نووية أقوى إذا أراد أن يرغم قوة نووية عظمى (الصين) على الانسحاب من أراضيها». أما صحيفة «تشاينا دايلي»، فقالت إن تصريحات تيلرسون «لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد لأنها خليط من السذاجة، وقصر النظر، والتحيزات البالية، والأوهام السياسية غير الواقعية»، مشيرة إلى أنه إذا قرر تيلرسون المضي فيها فسيكون لقراره عواقب «كارثية».