روح رفيق السبيعي لن تغادر حي البزوريّة، ومئذنة الأموي، وأدراج قصر العظم. هو الطفل الذي اعتاد اختصار الطريق إلى بيت خاله في حيّ العمارة، بعبور الجامع الكبير من باب الصاغة إلى باب الكلّاسة، مارّاً بضريح صلاح الدين. أحبّ الذهاب مع أخيه الكبير توفيق إلى حلقات الذكر، وإنشاد أشعار ابن عربي وابن الفارض في مسجد نور الدين الشهيد.
شبّ على حلم الفن، متحدّياً إرادة الأب، وظنون المحيط. لم يكن الأمر سهلاً في الشام القديمة بعد الاستقلال، ما اضطرّه إلى البدء باسم فنيّ هو «رفيق سليمان». كثيراً ما عاد إلى بيت العائلة تسللاً عبر الأسطح المجاورة. غير أنّ الشاب الحالم، لم يفهم التمرّد على أنّه «انحراف» أو تطرّف. النشأة رسّخت داخله الإخلاص لأخلاقيات المجتمع، فحرص عليها خلال مشواره. الفن يعني الإرشاد والتوجيه والإفادة العامة. أيّ فهم دون ذلك مرفوض، ولا يعني شيئاً. كذلك، سهّلت عليه التقاط تفاصيل الشخصية الشعبيّة ذات السلوك القويم والصفات الحميدة: مروءة وشهامة، وشوارب مقدّسة، وكلمة كحدّ السيف. المظاهر راسخة: صوت رجولي، ومشية عريضة، وشروال، وشال، وخال، وطاقية، وعصا. هكذا، لم تكن ولادة «أبو صيّاح» صعبةً. كذلك، لعبه على الخشبة وخلف المايكروفون وأمام العدسة لاحقاً.
سلسلة من الأسماء بصمت على بداية رفيق السبيعي. عمل ملقّناً في فرقة الرائد العبقري عبد اللطيف فتحي مطلع الخمسينيات، إضافةً إلى فرق أخرى مثل علي العريس وسعد الدين بقدونس ومحمد علي عبدو. سنحت الفرصة بغياب الممثّل أنور المرابط عن عرض لفتحي، يقوم فيه بدور الحمّال، فاستغلّها كما يجب. هذا قاده إلى عبقري آخر هو حكمت محسن، الذي ضمّه إلى عالمه المبهر من الكاركتيرات الشعبيّة المشتقة من الشارع الدمشقي العتيق. كتب له خصيصاً في الإذاعة، ثمّ نقله إلى الشاشة. في عام 1955، شكّل ثنائياً مع ممثّل لبناني من أصل يهودي يُدعَى توفيق إسحق، في إذاعة الشرق الأدنى التابعة لبريطانيا.

برهن بشخصية «طوطح»
عن قدرة فريدة على التجدّد

طبعاً، توقف العمل مع العدوان الثلاثي على مصر. أوّل مدير للتلفزيون السوري صباح قباني أعجب بشخصية أبو صيّاح، في مسرحية عن نصّ للمصري أبو السعود الإبياري، فجمعه بالثنائي دريد ونهاد. بدأ معهما في تمثيلية «مطعم الأناقة الجوّال» (1961)، قبل صنع السحر في أعمال أشهر من التعريف. بالتزامن، سيطر المغنّي والمونولوجيست رفيق السبيعي على الطقطوقة واللون الشعبي الناقد، مستفيداً من إرث سلامة الأغواني ونصوح ومطيع الكيلاني وفؤاد محفوظ وسعيد فرحات، وألحان عدنان قريش وزهير منيني، وكلمات بسيطة بعضها بقلمه. حقق شهرة واسعة في مسارح ونوادي دمشق. تابع في «نهوند» (1962) مع حكمت محسن، و«7 * 7» (1963) تحت إدارة رائد آخر هو خلدون المالح، حتى أنّه أرسل إلى مصر لنشر لهجة «الإقليم الشمالي» بصوت أبو صيّاح، واتباع دورة في الإخراج الإذاعي. أيضاً، لم يتخلّف عن المشاركة في تأسيس المسرح القومي عام 1960.
خلاصة تلك المرحلة أنّ رفيق السبيعي وصل إلى مشروع دريد ونهاد ناضجاً، مكتملاً. هو متعدّد الكارات الإبداعيّة، ومتشرّب لتجارب عدد من الروّاد والمؤسّسين. نهاد قلعي لم يبتكر شخصيته في المقالب والحمّام والأوتيل، كما فعل مع البقيّة. هذا منحه نوعاً من الاستقلاليّة والتفرّد. مكّنه من التحليق خارج سرب «صح النوم» متى أراد. «سعدو حنّي كفّك» رفض الخضوع لسطوة أبو صيّاح. تجرّأ على الكاراكتير، متجاوزاً جبن العديد من زملائه. ذهب إلى شخصيات بعيدة، قبل العودة إلى ملعبه الأثير. عدم القبول بالمرسوم سلفاً من أدوار ومكانة، كلّفه أثماناً وأعمالاً وخلافات طويلة الأمد.
«داعيكم أبو صياح معدّل ع التمام» مثل أعلى للشريحة الشعبيّة، بأخلاقه وسلوكه وخفّة دمّه وحلاوة روحه. ليس صعلوكاً طائشاً مثل «غوّار الطوشة»، أو غلباناً مسكيناً كـ «حسني البورظان»، أو قبضاياً أزعر من طراز «أبو عنتر» (ناجي جبر)، أو درويشاً أبله على غرار «ياسينو» (ياسين بقوش)، أو ضابطاً هزلياً من نوع «بدري أبو كلبشة» (عبد اللطيف فتحي). هو الزكرت، الجدع، ذو الجمال المرتبط بالفحولة والرجولة، صاحب الفعل المحسوب والحرف الوازن. كل ذلك صنع منه «فنان الشعب» دون سواه من الأشهر والأقدم.
قدّم رفيق السبيعي تنويعات واضحة على أبو صيّاح. أدوار مثل الزعيم في «أيام شاميّة» و«ليالي الصالحيّة» و«طاحون الشر» و«قمر شام»، والمختار في «أهل الراية» أمثلة على ذلك. شارك في أعمال لا ترقى لإمكاناته وتاريخه. في المقابل، تفوّق على نفسه في أخرى، مثل فيلمي «أحلام المدينة» و«الليل» لمحمد ملص. «طوطح» في «طالع الفضة» ذروة نادرة في قدرة ممثّل على الإتيان بالجديد بعد نصف قرن من العمل. لا أحد مثله يقدر على تشخيص الفيلسوف الدمشقي اليهودي. دور بديع رفضه دريد لحام، ونقل عنه كثيرون ندمه على ذلك بعد عرض المسلسل.
في يوم ما، أهداه الرئيس السوري أمين الحافظ مسدّسه الشخصي. هذا يقود إلى علاقة رفيق السبيعي وجيله مع السلطة. جيل متحفّظ، مهادن، مهذّب، حريص على عدم الإزعاج والاستفزاز على الصعيد الشخصي، رغم أنّ «مسرح الشوك» من أكثر التجارب الفنيّة مشاكسةً وجرأةً. هذا لم يثنِ رفيق السبيعي عن إطلاق لسانه، خصوصاً في السنوات الأخيرة. هاجم دراما البيئة الشامية المزيّفة للواقع. انتقد ارتهان الدراما السوريّة برمّتها لأموال الخليج، وانقيادها لأجندات محطّاته. من أكثر منه أهلاً للقول الفصل؟ جدّ الفنّانين أهدى حياته للإبداع. عمره الفني أكبر من عمر الدراما السوريّة نفسها. وداعاً.

https://www.facebook.com/messages/souria